«كلما ذكرت أمامي كلمة مثقف، تحسست مسدسي» يوسف غوبلز، وزير الدعاية النازية.
 
معبّرة جداً تلك الجملة التي تختصر منطق كل المنظومات الشمولية على مرّ التاريخ. فعلى عكس الرأي السائد، فالمثقف ليس مخزن معلومات فقط، أي أنّ لديه جواباً عن كل سؤال، وإلّا لكان الكومبيوتر أكثر ثقافة من أي مثقف على قيد الحياة، أو كان أو سيكون في أي زمن من الأزمان. المثقف هو إذاً ليس من له جواب عن كل سؤال، بل هو من له تساؤل عن كل جواب! أي هو من يدخل البديهي في دائرة المساءلة بدل الاكتفاء بجواب كامل مستند إلى قناعات بديهية.

 

من هنا، فقد كان المثقف القادر على طرح السؤال التحدّي الأصعب والأخطر، أمام من يريد أن يحكم بشكل شمولي، ويتحكّم بعقول الناس، من خلال إقفال دائرة الاستفهام على زغل الأساطير والأفكار المسبقة. لذلك، فلقد كان دائماً من الضروري للمنظومات الشمولية أن تصفّي المثقفين من أجل إتمام السيطرة. التصفية هنا ليست بالضرورة القتل، ومع أنّ القتل هو الوسيلة الأضمن لتمام السيطرة، لكن التطويع أو التهجير هو وسيلة أخرى يتبّعها الشمولي لتصفية المثقفين والثقافة. وحتى لا يشتبه لأحد مقصدي، فالمثقف ليس من حَمَل الشهادات فقط، بل من له من الجرأة والحزم لطرح السؤال أمام تحدّي الخطر الذي يستتبعه السؤال.


 
 

أعود اليوم إلى كلام حسن نصر الله الذي سمعته منه منذ أكثر من عقد من الزمن، حول سعيه الى فرض ولاية الفقيه، كنظام سياسي في لبنان، فقال إنّه عندما تقتنع أكثرية الشعب اللبناني بها سيصبح تطبيقها بديهياً.

 

لقد شكّل صعود الدولة الاسلامية في ايران، وافكار الامام الخميني الثورية سنة 1979 الملهم الاساسي لمؤسسي «حزب الله»، الذي أُعلن عن انطلاقه رسمياً سنة 1985، وان كان قد بدأ نشاطه، تحت تسميات اخرى، على خلفية الاجتياح الاسرائيلي للبنان سنة 1982.

 

ولا يُخفى على اي من المتابعين، الترابط الوثيق بين النظام الايراني الناشئ وبين الحزب الناشئ، والذي اصبح ملتزماً بشكل كامل مرجعية الولي الفقيه.

 

وقد جاء البيان التأسيسي لـ«حزب الله» واضحاً، من خلال السعي الى اقامة جمهورية اسلامية في لبنان، مشابهة ومتحالفة مع الجمهورية الاسلامية الايرانية على اساس القواعد الفقهية والسياسية التي وضعها الإمام الخميني. والواقع الذي نشأ منذ ذلك الوقت، هو انّ «حزب الله» ليس حزباً تابعاً ينفذ إرادة المرجعية السياسية الايرانية كأداة في يد النظام الايراني فحسب، بل انّه، لقناعات عقائدية عميقة، أصبح جزءاً متكاملاً من التركيبة السياسية والفقهية والعسكرية الايرانية. فبقدر ما لإيران من تأثير على «حزب الله»، فلـ»حزب الله» تأثير وتفاعل كبيران على مختلف مستويات القرار الرسمي والفقهي وحتى الشعبي في ايران.

 

وهذا الواقع لا يشابه بأي حال الواقع الذي كان سائداً بين الاتحاد السوفياتي والاحزاب الشيوعية التي كانت تسير في فلكه، على اساس أممية القناعات الفكرية والسياسية. وقد دفعت الكثير من هذه الأحزاب أثمن التضحيات على مذبح التسويات التي كان يقوم بها الاتحاد السوفياتي من وقت لآخر مع بعض الانظمة، وخصوصاً في ديكتاتوريات العالم الثالث.

 

اما بالنسبة الى «حزب الله»، فالرابط مع ايران يتعدّى التوافق السياسي والعقائدي الى الرابطة الروحية والقناعات التي تتعدّى واقع الحياة الدنيا الى الحياة الاخرى. وقد صرّح إبراهيم أمين السيد في انطلاقة الحزب «نحن لبنان في إيران، ونحن إيران في لبنان».

 

وهذا يعني عملياً، ان لا مجال في المدى المنظور، وفي واقع التوازنات الحاضرة اقليمياً، ان يتخلّى النظام الايراني عن دعمه الكامل لـ«حزب الله» مادياً وعسكرياً، حتى يتمكن من تحقيق اممية جديدة قائمة على مبدأ ولاية الفقيه، وهذا يُترجم عملياً عن طريق إقامة دولة في لبنان مشابهة وتابعة للجمهورية الاسلامية في ايران. ويكفي هنا العودة إلى تصاريح حسن نصر الله في أواخر حربنا الأهلية بقوله، إنّ الدولة الإسلامية في لبنان لن تكون مستقلّة، بل هي جزء من الدولة المركزية التي يقودها الولي الفقيه.


 
 

وعلى الرغم من ممارسة بعض التقية بخصوص هذا الموضوع، خصوصاً بعد دخول «حزب الله» في مرحلة المشاركة في السلطة في مجلس النواب بفتوى من الولي الفقيه، كانت تصدر تصاريح تؤكّد استمرار سعي هذا الحزب الى إقامة الجمهورية الاسلامية بعد الوصول، ولكن على اساس لـ«شبه اجماع، يفوق 90% من المواطنين».

 

وليس من الصعوبة الملاحظة انّ محازبي هذا الحزب يعتبرون انفسهم ينفذون مشروعاً تتعدّى مفاعيله واهدافه الطبيعية الإنسانية، لتصل الى نسبة هذا المشروع الى الرغبة الإلهية (هذا الحزب ليس حزباً آدمياً.. انّه حزب الله). وهذا يعني عملياً انّ كل الوسائل المستخدمة انما توجّهها هذه الإرادة الإلهية.

 

ومما يعني ايضاً انّ المعطيات الآدمية لن تؤثر في اي من الاحوال على توجّه «حزب الله» الى تحقيق هذه الأهداف.

 

من نافل القول إنّ هذه الاهداف تصبح صعبة التحقيق في دولة تعدّدية، مستقرة اقتصادياً ومسيطرة بشكل كامل على قرارها العسكري والامني ومتمسكة بالنظام الديموقراطي الحرّ كأساس للحكم فيها، لذا فالعمل على عكس هذه الامور مطلوب بشكل دائم.

 

لكن هذه الاهداف تصبح ممكنة في استمرار التسيّب في قرار الحرب والسلم، واستمرار وجود دولة ضمن دولة، واستمرار الانفلات على الحدود، وغياب الاستقرار السياسي، والإمعان في الإفقار، وازدياد هجرة النخب الاقتصادية والعلمية والسياسية، والاستمرار في سياسة التيئيس والترهيب.

 

حينها يصبح الشعب مطواعاً لدرجة تتحول معها الـ10% المؤيّدة للأهداف النهائية لـ«حزب الله» الى اكثر من 90%!؟ وهكذا تتحقق نبوءة نصر الله.

 

لهذا، فما يحدث اليوم من انهيار وهجرة نخب، ما هو إلّا حلقة متقدّمة من حلقات تطويع البلد للقبول بأي شيء، حتى وإن كان حكم الولي الفقيه، أو ربما وصاية أخوية جديدة.