تعد الانتخابات النزيهة أسمى تجليّات الحريّة. والحريّة، بما تعنيه، أن تختار بارادتك وأن تتحمّل مسؤولية خياراتك، وإذا كنت تختار بحرّية الحذاء الذي تراه مناسبًا لقدمك ولا تستطيع ان تختار للحكم من تراه مناسبًا، فأنت لم تزل عبدًا، لأن الحرّية تَعُم كلَّ موضعٍ يمكن فيه الاختيار.

 

تجري الانتخابات على مذهبين اثنين؛ " المسؤولية غير المتزمّنة" و" العرس الديمقراطي". الأول يتجلّى في البلدان الديمقراطية حيث يشعر المواطن بأنّه مسؤول عن اختياره مذ أسقط الورقة في صندوق الاقتراع وحتى اليوم الاخير من ولاية المسؤول المُنتَخب، فهو يَنتخب ويحاسب، وليس ممّن تصحو مسؤوليته فجأة وقت الانتخابات ثم تغفو حتى الدورة التالية. أمّا المذهب الثاني فهو المهزلة التي تتصدّر المشهد السياسي العربي منذ عقود؛ "العرس الديمقراطي". المشكلة في "أعراسنا الديمقراطية" أن الزواج زواجٌ ماروني، وإذا غاب الكاهن فـ"أبغض الحلال الطلاق".

 

والصراع على السلطة كالصراع بين شركات العطور؛ أيُّها يدوم أطول، مع فارق جوهريٍ هو أن العطور السياسية، والعربية بشكل خاص، كلّما دامت أطول صارت أشدّ تفاهةً وأنتن ريحًا، وكأنَّ "التسريح بإحسان" زندقة. يقول آينشتين أنّ سرعة الضوء هي السرعة المطلقة التي لا يمكن السير بها، وبلوغها نظريًا يعني توقف الزمن؛ أو الخلود.

 

 

أحيانًا تكسر بعض الأمثال القاعدة وتسير بالسرعة المطلقة. والأمثال كانت، ولازالت، للناس لعلّهم يتفكّرون. الدول عربات على طريق ضيقة ذات منحدرين سحيقين، عن اليمين وعن الشمال، والانتخابات هي اختيار السائق، فلا بد للركّاب، قبل الاختيار، من التفكّر، ثم التفكّر في تفكّرهم، لعلّهم لا يسقطون. والتفكّرُ بالتفكّرِ يُذكر؛ رُويَ عن الفيلسوف الفينيقي، الملقّب بـ"صانع القادة"، أنّه كان يبدأ درسه الفلسفي بالاستماع الى سؤالين اثنين يطرحهما تلميذٌ واحد فقط، ثم يجيبه عليهما دون أي تعقيب على جوابه. وحِرصًا منه على القِسط بين التلامذة، جعل هذه السُنّة، سُنّة السؤالين، بالمداورة، حيث خصّصَ لكل تلميذ من تلامذته الثمانية عشر يومًا محددًا ليطرح سؤالَيْه. لم تكن "الدورة" المطلوب اتمامها لصناعة "القادة" ذات مدّة معينة؛ إذ أنّها كانت تطول وتقصُر، ولا تنتهي إلا حين يرى الفيلسوف أنّ تلامذته أصبحوا اهلًا لقيادة جمهورية فينيقيا العظمى. ذات أربعاء، دخل الفيلسوف على التلامذة وجلس في مجلسه المعتاد، ثم أخرج وثيقة المداورة من تحت عباءته، وأشار الى أحد التلامذة ليسأل سؤاليه، وكان هذا التلميذ صعلوكًا متسكّعًا قبل أن يُصبح بينه وبين أحد تلامذة الدورة السابقة نسبًا.

 

 

سألَه التلميذ عن الغَنَم فأجاب المعلّم؛ الغنمُ نوعان؛ غنمٌ يُهرَّب، وغنمٌ يَنتخب. ثمّ سألَه عن البِغال فأجاب؛ والبِغال نوعان؛ بغلٌ لا يُنجب فلا يُوَرِّث ولا يُوَرَّثْ، وبغلٌ يُنتخب فيُوَرَّث ويوَرِّثْ. ثم شَرَع بدرسه الفلسفي، وكان عن الحقوق، وراح يشرح لتلامذته حقوق كل شيئ؛ بدءً بحقوق النفس والآخرين وانتهاءً بحقوق الحيوان والطبيعة. ولما أنهى درسه، سأله الصعلوك؛ أيّها المعلّم الحليم، أين حقوق الغنم؟ فقال الفيلسوف؛ حقوق الغنم من حقوق الطبيعة والحيوان. فاعترض التلميذ قائلا؛ يا سيدي، إني ارى بكلامك تهديدًا وجوديًا يتهدد الغنم. ثم دخل باقي التلامذة على خط المشاورات، وبدؤوا نقاشًا حادًّا حول حقوق الغنم، والفيلسوف يراقبهم بصمت، ثم تحوّل النقاش الى مهاترات، وكل يدافع عن مفهومه للغنم وحقوقه، وبدأ كل تلميذ يهدد بما يملكه من غنمٍ مؤَيِّدْ وغنمٍ ملتزم، إلى أن تدخّل الفيلسوف وأنهى النزاع بإنهاء الدرس، ودعاهم الى الغداء، كما اعتاد أن يفعل عقب كلّ درس. جلسوا، على غير عادة، الى طاولة مستديرة، أكلوا، شربوا الخمر وتحدّثَ كلٌ عن غنمه. ولمّا انتهوا قال المعلّم؛ أيها النجباء، ما حصل اليوم يؤكّد أنّكم قد فهمتم الدرس، قوموا الى غنمكم وحقوقهم، أخبروهم بشجاركم، ولا تُشهدوهم الطاولة المستديرة، ولا تمنعوهم الشعير. كان هذا الغداء الأخير. وذهب "صانع القادة" ليبحث في الأحياء المجاورة عن ثمانية عشر صعلوكًا جديدًا يعدّهم لحكم الغنم الذي لم يولد بعد.