تنجح القوى الإستبدادية الحاكمة في تحويل عملية التعليم الى ما أسماه غلنر (Gellner) إخصاءً سياسياً و الى جفافٍ فكري وقحلٍ أخلاقي وتصبح الجامعات مصنعاً لتصدير أخطر نوعٍ من العبيد، العبيد الطوعيين المتسلحين بقوة السلطة الغاشمة ووهم الحقيقة المطلقة.
 

يشكّل التعليم ركيزةً أساسيةً من ركائز الدولة المتقدّمة وحجر زاوية في عملية بناء مجتمعٍ منفتحٍ وحضاري. وتحتلّ الجامعات مكانةً خاصةً إذ أنها تؤدي أدواراً أساسية، فهي مخزن للمعرفة البشرية تحافظ عليها وتنقلها للأجيال المتتالية، ومركزٌ لبثّ المعارف الجديدة من خلال الأبحاث والدراسات؛ كذلك، تعدّ الجامعة عنصراً محورياً في التطور المُجتمعي والإقتصادي من خلال تعزيز النمو والتنمية المستدامة وعلى المدى الطويل، المساهمة في تحقيق الرفاه الإجتماعي والإستقرار السياسي والديمقراطية الحقيقية.

 

 

وإنطلاقاً من أهمية الجامعة وتأثيرها في المجتمعات  (تظهر هذه الأهمية حتى في أصل الكلمة العربية "جامعة" من الجذر "جمع" وتعني جمع المعارف والعلوم تحت سقفٍ واحد والكلمة الانكليزية "university" وجذرها اللاتيني "universitas" أي "الكلّ")، نرى أنظمة الحكم المختلفة تسعى الى نسج العلاقات والروابط مع الجامعات: ففي الأنظمة الديمقراطية، تسعى السلطات الى الإستفادة من الأبحاث والخبرات الأكاديمية التي يمكن للجامعة تقديمها من أجل تعزيز قدراتها وتحسين أدائها، أما الأنظمة الدكتاتورية فتعمل على تسخير القدرات والجهود الجامعية لمصالحها، وهي الخبيرة في استغلال كافة العناصر الإقتصادية والإجتماعية والثقافية والفكرية لضمان إستمراريتها في الحكم. 

 

 

وعلى الرغم من كلّ الشعارات الرنّانة التي يستخدمها الإستبداد السياسي لكي يظهر بمظهر المبجّل للمعرفة والمشجّع على التعليم،  إلا أن هدفه النهائي هو تدمير الجامعة بصفتها واحةً للحرية والاختلاف والفِكر المستقل. وفي كتابه "سورية: الدولة المتوحشة"، يعبّر المفكّر ميشيل سورا (Michel Seurat) عن هذا الإتّجاه بوضوحٍ تامّ:    "... تستثمر آلة الحرب هذه (المقصود بآلة الحرب هنا وفقاً للسياق النظام أو الأقلية الحاكمة) الجامعة وتتعامل معها كما يتعامل الجيش مع القلعة؛ لكنها إنما تحتلها بهدف تدميرها فقط وفقاً لسياسة الأرض المحروقة". وتقوم هذه الأنظمة ببسط نفوذها على الجامعات من خلال العمل على مستويَين مترابطَين ارتباطاً سببياً ثنائي الإتجاه (أي أن كلاً منهما يتسبب بوجود الآخر): المسؤولين الأكاديميين والأساتذة من جهة، والطلاب من جهةٍ أخرى. 

 

 

يتم اختيار الأكاديميين والأساتذة في الكثير من الحالات حسب الإنتماء السياسي والولاء للسلطة أو بواسطة المحسوبيات، فنجد الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب؛ ولا تؤدي هكذا خيارات الى خفض المستوى العلمي وشبه انعدام للأبحاث والدراسات فحسب، بل يتعداه الى ضرب رسالة الجامعة كمنارةٍ  للحرية والإبداع إذ أن هؤلاء لن يتوانوا لحظةً عن تفضيل مصالح السلطة وقوى الأمر الواقع على المصلحة الأكاديمية والوطنية وعن تنفيذ ما يؤمرون به إذ أنهم يعرفون تمام المعرفة أنهم ما كانوا ليصلوا الى مراكزهم لولا تبعيتهم وأنهم غير مؤهلين أكاديمياً وفكرياً لتولي هكذا مناصب وأنهم لن يستمروا فيها لو تغيّرت الأحوال وتم القضاء على الفساد المستشري، وتصبح الجامعة بذلك أداةً طيّعةً في يد السلطة الحاكمة تأتمر بأمرها وتنفّذ اجنداتها. 

 

 

أما على المستوى الطلابي، فيتم قبول الكثير من الطلاب غير المؤهلين للدراسة الجامعية في تأويلٍ ديماغوجي لمقولة "التعليم للجميع"؛ فالتعليم يجب أن يكون متاحاً لجميع المؤهلين بمعزلٍ عن وضعهم الإجتماعي والإقتصادي وليس للجميع بمعزلٍ عن الأهلية والمستوى. ومن المظاهر الخطيرة جداً في هذا المجال تحوّل القبول والنجاح الجامعيَين الى مكافأةٍ يحصل عليها الطلاب الموالون للسلطة، ونورد هنا العديد من الأمثلة بدايةً من سوريا في سبعينات وثمانينات القرن الماضي حيث كان كل من ينتسب الى "شبيبة الثورة"، وبعد خضوعهم لدورةً في القفز المظلي، يُقبَلون في الجامعة من دون الرجوع الى نتائج البكالوريا وصولاً الى لبنان واليمن خلال العقد الأخير حيث صار من الممكن إيجاد حالات يتم فيها إنجاح طلاب لا يحضرون الصفوف ولا يقدّمون الامتحانات بالشكل المطلوب بحجة انشغالهم ب"الواجب الجهادي"، وبالتالي يتوجب على الجامعة والمجتمع ردّ الجميل لهم عبر منحهم شهاداتٍ لا يستحقونها. وينتج عن هذه الممارسات أجيالٌ كاملة من "المتعلّمين" غير المثقفين ممّن لا يمتون بصلةٍ الى الفكر والمعرفة، وذلك في إطار مؤامرةٍ تهدف الى التسريع في إنهيار الدولة من خلال تسليم أشباه الأميّين وأزلام السلطة وقوى الأمر الواقع المناصب والوزارات والمهامّ المختلفة. 

 

 

من خلال هذه السياسات، تنجح القوى الإستبدادية الحاكمة في تحويل عملية التعليم الى ما أسماه غلنر (Gellner) "إخصاءً سياسياً" و الى جفافٍ فكري وقحلٍ أخلاقي وتصبح الجامعات مصنعاً لتصدير أخطر نوعٍ من العبيد، العبيد الطوعيين المتسلحين بقوة السلطة الغاشمة ووهم "الحقيقة" المطلقة. 

 

 د. نور الشل