لم يخفِ الرئيس الاميركي جو بايدن خلال حملته الانتخابية، أنّه في حال فوزه سينتهج سياسة مغايرة لسياسة دونالد ترامب، خصوصاً في الشرق الاوسط، وهو شكّل اعضاء ادارته من خبراء ومحترفين في الشأن الإيراني، وادار محركاته سريعاً لإعادة إحياء الاتفاق النووي.

 

 

 

وعامل الوقت كان اساسياً في حسابات ادارة بايدن، أولاً، للانتقال سريعاً والتفرّغ لخطة احتواء الصين، وثانياً لاستغلال عامل القوة الذي يصاحب بداية كل ادارة، خصوصاً وأنّ الانتخابات النصفية المقبلة قد تؤدي الى خسارة الديموقراطيين لغالبيتهم المهمشة في الكونغرس، وسط نزاع اميركي داخلي حاد.

 

وفيما اختار ترامب ان تكون اول زيارة خارجية له بعد دخوله البيت الابيض الى السعودية، فإنّ بايدن سيزور بريطانيا للمشاركة في قمة مجموعة السبع، ومن ثم ينتقل الى بروكسل لحضور قمة دول الحلف الاطلسي (الناتو)، وهي ملاحظة تعطي فكرة عن اختلاف النظرة السياسية بين بايدن وترامب.


 
 

في ايار 2019 سعت السعودية الى حشد حلفائها خلفها، في إطار المواجهة مع ايران، ولذلك استضافت ثلاث قمم، وفي شكل متزامن، واحدة خليجية وثانية عربية وثالثة اسلامية. وعُقدت هذه القمم في مكة في إطار مواجهة ايران، بعدما استهدفت شركة «ارامكو» النفطية العملاقة بهجمات نُسبت الى ايران، إضافة الى تفجيرات طاولت ناقلات محمّلة بالنفط السعودي. كانت السياسة السعودية يومها تتكئ على حليف اسمه دونالد ترامب، الذي كان ينتهج مساراً هجومياً في اتجاه ايران، ادّى الى تمزيق الاتفاق النووي ورفع مستوى الضغوط الى الذروة، مع حزمة عقوبات موجعة على الاقتصاد الإيراني، وأُرفق ذلك باغتيال مهندس النفوذ الإيراني في الشرق الاوسط الجنرال قاسم سليماني.

 

لكن مع خروج ترامب من البيت الابيض ودخول بايدن اليه، تبدّل الوضع جذرياً. فالإدارة الديموقراطية اعلنت في شباط وقف كل اشكال الدعم الاميركي للعمليات الهجومية في اليمن، وشطبت الحوثيين عن لائحة التنظيمات الارهابية. واستغل الحوثيون هذا التبدّل في الموقف الاميركي وصعّدوا هجماتهم في اتجاهين: الاول في محاولة للسيطرة على محافظة مأرب الغنية بالنفط، والثاني في اتجاه استهداف العمق السعودي، من خلال الطائرات المسيّرة المفخخة.

 

وفي التقديرات الاولية، انّ السعودية تكلفت نحو 100 مليار دولار حتى الآن بسبب الحرب الدائرة في اليمن. ومعه ووفق المعطيات الجديدة، كان لا بدّ من حصول انعطافة في السلوك السياسي السعودي، طالما انّ فيينا تؤشر الى تفاهم حاصل بين واشنطن وطهران حيال الملف النووي، وطالما انّ اسرائيل قد سلّمت بأنّها لن تستطيع ان تؤثر على الموقف الاميركي، رغم سعيها بقوة في هذا الاتجاه، ولو وفق مسار حذر هذه المرة، وليس متهوراً كما خاطرت عام 2015.

 

لذلك، ارتأت السعودية ان تميل الى تهدئة جبهات نزاعها في الشرق الاوسط، وهي تدرك انّها في حاجة الى استخدام رافعة ديبلوماسية مع ايران. فالخطوة الاولى كانت من خلال رئيس الوزراء العراقي، الذي ساهم في اللقاء السعودي ـ الايراني المباشر في المنطقة الخضراء في بغداد. في هذا الاجتماع بدت السعودية مهتمة بعناوين ثلاثة:

 

الاول وله علاقة بوقف الحرب في اليمن وتحديداً المعارك الدائرة في محافظة مأرب.


 
 

والثاني وله علاقة بالأمن السعودي لجهة المسيّرات والصواريخ التي تُطلق في اتجاه العمق السعودي.

 

والثالث هو ما يتصل بأمن الخليج بشكل عام، وضرورة سحب فتائل التشنج والذهاب باتجاه تأمين مظلة أمنية ثابتة.

 

الانطباعات الغربية كانت أنّ الاجتماع كان ايجابياً وسار في اجواء جيدة، لكن التوقعات لا تؤشر الى نتائج ملموسة قريباً، بل الى بداية جيدة، وانّ المسار سيكون طويلاً نوعاً ما، وأنّه ما لم تنسج ايران سياسة خارجية جديدة، فإنّ اي تقارب سيكون ظرفياً وهامشياً. لذلك لا تتوقع الاوساط الغربية حدوث تحسن كبير في العلاقات بين السعودية وايران في وقت قريب.

 

وفي اطار السياسة السعودية الجديدة، جاءت الخطوة الثانية في اتجاه سوريا. في السابق حاولت الإمارات اقناع السعودية بالانفتاح على دمشق لأسباب عدة اهمها:

1- وجود تسليم دولي ببقاء بشار الاسد رئيساً لسوريا خلال السنوات المقبلة، ما يعني انّ من الحكمة التسليم بالأمر الواقع.

2- ترك الساحة خالية في دمشق، يعني تسهيل مهمة ايران في احاطة النظام، وبالتالي وجوب ملء الفراغات للحدّ من النفوذ الايراني في سوريا.

3- الخطر المقبل هو من تركيا، بسبب دعمها لـ»الاخوان المسلمين»، وهو ما يعني انّ حماية دول الخليج من خطر «الاخوان المسلمين» يستوجب مواجهته في سوريا ولو الى جانب النظام، من اجل حماية أمن انظمة دول الخليج.

 

لذلك تقدّمت الامارات في اتجاه اعادة فتح سفارتها في دمشق، لكن السعودية لم تتجاوب. وعملت لاحقاً روسيا وايضاً مصر على هذا الخط وفي الاتجاه نفسه، لتعود الرياض وتباشر خطوتها الجديدة في اطار التعديلات التي ادخلتها على سياستها الخارجية.

 

وفي دمشق، قيل إنّ الأجواء كانت ايجابية، وانّ البحث تطرّق الى العلاقة بين البلدين، وكذلك الى الوضع في الخليج، اضافة الى اليمن. وعرضت السعودية إعادة فتح سفارتها في دمشق بعد الانتخابات الرئاسية السورية. لكن دمشق فضّلت ان تحصل هذه الخطوة قبل الانتخابات، وهو ما أدّى الى التفاهم على فتح القنصلية السعودية بعد عيد الفطر، على أن تُفتح السفارة بعد الانتخابات، وسيلي ذلك اعادة احتضان سوريا في جامعة الدول العربية.


 
 

وقد تكون دمشق تفكر بالدور السعودي الاساسي لدى الشروع في مرحلة اعادة اعمار سوريا، حيث يشكّل التمويل احد ابرز المشكلات. وبخلاف التحليلات السطحية التي انطلقت عقب الكشف عن زيارة الوفد السعودي لدمشق، والتي تحدثت عن تطورات مباشرة ستصيب الساحة اللبنانية، فإنّ هذه المبالغات تبدو غير واقعية.

 

ووفق ما ردّد مصدر ديبلوماسي غربي، فإنّ الحديث عن اعادة تلزيم الملف اللبناني لسوريا انما هو من باب التخيلات، لسبب بسيط، وهو انّ المشكلات التي تختزنها الساحة السورية اكبر بكثير من تلك الموجودة على الساحة اللبنانية. أضف الى ذلك، انّ المطروح حالياً، طريقة اعادة النازحين السوريين الى سوريا، والإخراج المطلوب لسحب عناصر «حزب الله» من سوريا، والذين يقاتلون الى جانب الجيش السوري.

 

أما الخطوة السعودية الثالثة في اطار سياستها الخارجية الجديدة، فهي في اتجاه اعادة فتح الابواب مع تركيا بسعي من انقرة.

 

فقد وافقت السعودية على طلب زيارة سيقوم بها وزير الخارجية التركية للرياض، بهدف اعادة تصويب العلاقة التي تأزمت كثيراً إثر مقتل جمال خاشقجي. صحيح أنّ تركيا هي من طلبت الزيارة، لكن السعودية أزالت تحفظاتها ووافقت على فتح ابوابها. والخطوة التركية لها عنوان مباشر وهو اعادة التواصل الى شرايين العلاقة بين البلدين. وسيكون لها نتيجة ملموسة على صعيد الاقتصاد، ذلك أنّه بعد حادثة الخاشقجي، ايّدت الشركات السعودية مقاطعة غير رسمية للبضائع التركية، ما ادّى الى انخفاض الصادرات التركية الى السعودية بأكثر من 94%.

 

وللخطوة التركية ايضاً آمال مستقبلية لناحية التنافس على النفوذ بين ايران وتركيا واسرائيل.

 

المهم الّا نغرق دائماً كلبنانيين في وهم أننا محور الكون.