«صلاح أمرك للأخلاق مرجعه

فقوم النفس بالأخلاق تستقم

والنفس من خيرها في خير عافية

والنفس من شرها في مرتع وخم»

(أحمد شوقي)


 

لافتة تلك المقابلة التي استضافت فيها وكالة صحافة فرنسية الشيخ الدكتور والأستاذ الجامعي صادق النابلسي، يعلن فيها بوجه باسم، أنّ من حق الممانعة أن تلجأ إلى التهريب لكونها تحت الحصار. ببساطة، فإنّ هذا التصريح يختصر واقع الحال، وهو أنّ التهريب هو وسيلة من وسائل المقاومة، وبالتالي فإنّ البضائع المهرّبة، وبغض النظر عن محتواها، هي أدوات للمقاومة والممانعة. ومن المنطقي الاستنتاج، أنّ معابر التهريب تصبح حكماً من مواقع المقاومة.

 

هذا الاستنتاج ردّني إلى واقعة اغتيال النقيب الطيار سامر حنا، يوم وطأت طائرته المروحية أرضاً فيها موقع من مواقع المقاومة، حسب تصنيف «حزب الله». وبطبيعة الحال، فإنّ الاستنتاج هو أنّ هذه المواقع محروسة بالموت والإرهاب. لذلك، فلن تسول لأحد نفسه، إن كانت عزيزة، أن يتجرأ على المرور، ولو بطريق المصادفة، على أحد هذه المواقع، لأنّه سيتعرض للقتل، أو في أحسن الحالات، سيُعتقل ويُتهم بالتجسس لمصلحة العدو. ومن ما زال يستفهم أو يستغرب، فما عليه إلّا العودة إلى ملف اغتيال لقمان سليم، الذي كما هو واضح، تجرأ على التحقيق في ملف تبييض الأموال، وهو موقع من مواقع المقاومة.


 
 

أعادني هذا الموضوع إلى أيام الحرب الأهلية المصغّرة المعروفة بالتبانة-بعل محسن. يومها لجأت إلى مرجع أمني كبير مستفهماً عن أسباب عدم وقف تلك الحرب التخريبية، في بقعة لا تتعدّى كيلومتراً مربعاً واحداً في قلب طرابلس، يمكن حصارها ومنع تسرّب الذخيرة إليها إلى حين تنفد، وبذلك يتوقف إطلاق الرصاص الذي يروع أطفال التبانة وبعل محسن على حدّ سواء. ما قلته بالضبط «إن كان هناك حريق لا يمكن الدخول إليه لإطفائه، يمكنكم على الأقل تسكير أنابيب المحروقات التي تصبّ فيه، ومن ثم انتظار ألسنة اللهب لتنطفئ»، فكان الجواب كما يلي، من دون مبالغة أو تجنٍ «إن بعل محسن هو موقع من مواقع المقاومة، ونحن لا يمكننا منع دخول السلاح أو الذخيرة إليه لكون ذلك يتنافى مع القرار السياسي». قلت له عندها «لِمَ لا تُحاصر مناطق الطرف الآخر، وبالتالي سيتوقف إطلاق النار من جهة، ولا يعود هناك سبب للقتال، ومن يعتدي عندها أنتم تردعوه «، فأجابني بابتسامة متواطئة «عندها ستتهمنا جماعتكم (أي السنّة) بالتواطؤ مع الطرف الآخر!». ببساطة، فإنّ حرب طرابلس المشؤومة استمرت لأنّ في الخلفية موقع من مواقع المقاومة.

 

ما أريد أن أقوله بناءً على ذلك، هو أنّ من العبث اليوم مطالبة الدولة بالسيطرة على معابر التهريب، طالما أنّها من مواقع المقاومة. ومن يعتبر أنّه على رأي مكيافيلي، أنّ الغاية تبرّر الوسيلة، فلن يأبه إن كانت الوسيلة حبوب الكبتاغون أو مال الجريمة المنظّمة المبيض بقروض حسنة أو غير حسنة، ولا بأطنان نيترات الأمونيوم المخزّنة تحت البنايات وبين الأحياء، وما جريمة المرفأ إلّا أحد وجوه مواقع المقاومة المحظور دخولها إلّا على المؤمنين بأهداف المقاومة، أو المرتشين الذين يسهلّون أمور المقاومة، أو المتواطئين الذين يستفيدون من ورقة توت المقاومة. من هنا بالذات يُستنتج العبث، فالمطالبة تعني وجود دولة بالفعل مسؤولة فقط أمام شعبها، وأمام العدالة وحقوق الإنسان، أي دولة عادية مثل معظم الدول.

 

لكن «لقد أسمعت لو ناديت حياً/ ولكن لا حياة لمن تنادي». فلبنان تحول الآن دولة مارقة بالكامل، وهو كان على هذا الدرب يسير منذ أحبولة «شعب، جيش، مقاومة» التي تبرقع وراءها كل شذاذ الآفاق، في الأمن والسياسة والمال والتربية والاقتصاد، من «يزرع الرياح يحصد العواصف». وعندما أستخدم تعبير دولة مارقة فهي تعني الدولة التي تظهر عجزًا مزمنًا في التفاعل البنّاء مع العالم الخارجي. جاك دريدا الفيلسوف في سياق تفكيكه لمفهوم المروق، اعتبر معنى السفاهة والسفالة، أي أنّ ما هو مارق هو في النهاية سافل، وهو ذاك الذي يملك ذكاء وقدرة على الخروج على القانون والتمرّد على النواميس الاجتماعية والأخلاقية والسياسية... وهو أيضًا القادر على السخرية منها والتبرؤ من طاعتها تمام التبرؤ. كذلك اعتبر المروق في المجال السياسي «العاطل» أو «المقصي» أو «المغضوب عليه» الذي لم ينل رضا المعنيين بالأمر. الدكتور خليل حسين قال في كتابه «العلاقات الدولية النظرية والواقع - الأشخاص والقضايا» عن الدولة المارقة كنظرية: «الدولة المارقة هي التي تخالف بانتظام الأعراف والأنظمة الدولية». ويضيف: «الدولة العدائية التي تمثل تهديداً للسلام العالمي، وهي أنظمة رجعية عدائية تجاه الأجنبي ومتعالية ولا تحترم قواعد المجتمع الدولي».


 
 

ولو راجعنا ما هو وضع لبنان اليوم، لرأينا أنّ تطوره من دولة فاشلة إلى دولة مارقة، أو دولة المطلوبين الخارجين عن القانون. هذا الكلام يأتي طبعاً في ظل غزوة الكبتاغون الأخيرة والارتباك المريب في ردّ فعل ما تبقّى من السلطة على الفضيحة. في أيام العهد القوي تحول شعار «شعب، جيش، مقاومة» الى إجرام، تهريب، وتبييض أموال في خدمة المقاومة.