في بلادٍ قريبةٍ من أوطاننا على الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط، تُدعى ألمانيا، قادها دكتاتورٌ نازيٌّ أواسط القرن الماضي إلى حربٍ عالمية طاحنة، زاد عدد ضحاياها على خمسين مليون نسمة، وخلّفت دماراً هائلاً في كافة أنحاء العالم، تولّت قيادتها السيدة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قبل ثمانية عشر عاماً، وتنحّت عن قيادة المسؤولية بإرادتها الحُرّة، فوقف الشعب الألماني عن بكرة أبيه ليُودعها ويُحيّي نضالها وشجاعتها وتفانيها في خدمة وطنها، فأمضى ستّ دقائق وهو يُصفّق بحرارةٍ وتقدير، في الشوارع والساحات وشرفات المنازل والمكاتب والنوافذ، بلدٌ بكامله يُصفّق للمستشارة التي لم تتّخذ لقب الملكة أو الأميرة، بل استحقّت ما حازت عليه بكفائتها ومهارتها وتفانيها، فلُقّبت "بسيدة العالم"، قادت ثمانين مليون ألماني من نجاحٍ إلى نجاح، وامتازت بإنسانيّتها، فضلاً عن وطنيّتها، فعندما تدفّق مئات الآلاف من اللاجئين السوريين إلى ألمانيا، استقبلتهم المستشارة ميركل بحفاوة ورحابة صدر، وتضحيات جسيمة، ودمعت عيناها عندما اطّلعت على حال البؤس والشقاء التي كانوا يعانونها، وطالبت الشعب الألماني بفتح القلوب قبل فتح البيوت، لتخفيف معاناتهم وآلامهم.

 


طوال حكم أنجيلا ميركل لم يُسجّل أي تجاوز ضدها، لم تُعيّن أقاربها في مناصب حكومية، تركت وراءها إرثاً لا ينضب في مكارم الأخلاق وسُموّ الهمّة، كانت تخرج للأسواق لتشتري حاجاتها بنفسها وتحملها بلا مساعدة من المرافقين، كما ذُكر أنّها لم تُغيّر خزانة ملابسها خلال الفترة التي تولّت فيها الحكم، وعندما سألها بعض الصحفيين: لماذا ترتدي نفس البدلة؟ أجابت: أنا موظفة حكومية ولستُ عارضة أزياء، وعندما ألحّ عليها الإعلاميون لمعرفة ما إذا كان لديها خادمة عمالة منزلية، أجابت بالنفي، فليست بحاجة لذلك، لأنّها تستطيع أن تقوم بنفسها لخدمة بيتها وزوجها، الذي يساعدها في ذلك بالطبع، وعندما ضاقت ذرعاً بالأسئلة الخاصة، وجّهت اللوم للإعلاميّين قائلةً: توقعت أن تسألوني عن النجاحات التي حققتها الحكومة، والفشل الذي أصابها في بعض الأحيان.

 

 

إقرأ أيضا : الإجتهاد الضروري في زمن الفتنة..


غادرت المستشارة ميركل المنصب الأول في بلدٍ يمتلك أكبر اقتصاد في أوروبا، وهي لم تُغادر مسكنها في شقّة عادية، كانت تسكنها قبل توليها الحكم، فيا ويلتاه، تغادر ميركل "جنّة" الحكم وخزائنها، لا تمتلك "فيلّلا"، ولا قصر، ولا حمّام سباحة، ولا منتجع في جزر العذراء البريطانية، ولا حسابات مصرفية طائلة في سويسرا، ولا ممتلكات في باريس ولندن ولاس فيغاس.

 


يُستحسن أن لا نقارن حُكّام اوروبا وأميركا الشمالية بحكّام العالم العربي والإسلامي، ففي ذلك مجلبة للهمّ والغمّ ووجع الرأس والقلب معاً، وخاصةً ما يجري في هذه الأيام في بلدنا العزيز لبنان، نظامٌ سياسيٌّ مُهترئ، لا أمل في إصلاحه، حُكّامٌ فاسدون، بلدٌ يهوي في مزالق الفقر والبطالة والجوع والحرمان والإذلال والخوف، حتى بات على شفا الانهيار الشامل، وحُكّامه مُصرّون على الإلتصاق بمناصبهم والحفاظ على امتيازاتهم، ومواصلة نهب المال العام والاثراء غير المشروع وصرف النفوذ وتكديس الثروات، حتى فقدنا الأمل بتفاؤلٍ بسيطٍ في المستقبل القريب أو البعيد، لأنّه لن يزيدنا إلاً حسرةً وندامة، وهذا مع الأسف الشديد بالطبع.