من المستحيل إقناع احد بأنّ المقاطعة السعودية للمنتوجات الزراعية اللبنانية ناتجة من اكتشاف شحنة «الرمان المخدّر»، فالقرار مُتخذ من قبل، ولم يكن ينقصه سوى «الرمانة التي نفد بها صبر السعوديين». فالجردة التي أُجريت حول تجارة المخدرات، نضحت بما هو اخطر بكثير، وعلى المسؤولين اللبنانيين فهم الرسالة، إن ارادوا ذلك. وإلاّ، فإنّ الفشل سيتجلّى في صورة جديدة تعمم المأساة على قطاع جديد. فما الدافع الى هذه المعادلة؟

نصح اكثر من تقرير ديبلوماسي عربي وغربي منذ سنوات عدة، أعقبت الشغور الرئاسي وبداية العهد الجديد، القيادات اللبنانية بضرورة التنبّه الى خطورة الدرك الذي يمكن ان يقود اليه سوء العلاقات مع دول الخليج العربي عموماً والمملكة العربية السعودية خصوصاً. ولم يغفل بعض هذه التقارير التحذير الواضح والصريح من تطور الامور بنحو خطير، عقب استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري في الرياض في الرابع من تشرين الثاني 2017، والشروط التي رافقت تجاوز هذا الحادث وعودة الحريري الى ممارسة نشاطه.

 

فما حصل لاحقاً، اثبت انّ تداعيات ما شهدته الرياض لم تُطوّق نهائياً، وانّ تردداتها السلبية بقيت تتفاعل في الكواليس الديبلوماسية والسياسية، وزاد منها انهيار التوقعات التي تحدث عنها أطراف «تسوية العام 2016 السياسية» الذين تعهدوا للمملكة بأنّ انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية سيأتي به الى «المنطقة الوسطية»، ولن يكون طرفاً معادياً لدول الحلف الدولي ومجموعة دول الخليج العربي في مواجهتها مع إيران. وما زاد في الطين بلّة، تهاوي تعهدات اللبنانيين امام القيادة السعودية والمجتمع الدولي، وخصوصاً الدول التي رعت الحل لإخراج الحريري من الرياض.


 
 

وإن عاد الجميع الى البيان الذي تلاه الحريري بعد عودته عن الاستقالة، عقب جلسة مجلس الوزراء في 5 كانون الأول 2017 في قصر بعبدا، يثبت انّ الجرح لم يندمل، وانّ الزغل ما زال قائماً. فقد تعهّد الحريري فيه بإسم «الحكومة اللبنانية بكل مكوناتها، النأي بالنفس عن اي نزاعات او حروب او عن الشؤون الداخلية للدول العربية، حفاظاً على علاقات لبنان السياسية والاقتصادية مع اشقائه العرب»، وهو امر لم يدم طويلاً.

 

ولا يُخفى على احد، انّ سقوط هذه التعهدات واحدة بعد أخرى، حوّلت لبنان تدريجاً مقراً لكل النشاطات التي تشكّل تحدّياً للمملكة العربية السعودية. فتعدّدت مراكز تدريب الحوثيين في البقاع، وسياسياً واعلاميا في بعض أحياء الضاحية، التي تحولت مركزاً لمؤتمراتهم، ونشأت الفضائيات التىابعة لهم خصوصاً التي تهاجم، الى جانب قناة «المنار»، الدول الخليجية والسعودية خصوصاً.

 

وعليه، احتُسبت كل هذه التطورات السلبية تجاهلاً لما جرى التفاهم في شأنه بعد «استقالة الرياض»، ولم تنفع التحذيرات التي تلقاّها لبنان من دول صديقة عربية وغربية، فابتعد الخليجيون عن لبنان تدريجاً، الى ان بلغت القطيعة الديبلوماسية مدى لم يكن متوقعاً من قبل. فغابوا عن كل المناسبات وباتت زياراتهم لقصر بعبدا نادرة ومحصورة بما تفرضه الأصول الديبلوماسية في حدّها الأدنى. والى هذه الرسائل التي لم يشأ اركان الحكم فهمها، فقد حمّلت السعودية ومعها عدد من دول مجلس التعاون الخليجي، لبنان المسؤولية كاملة عن كل الخروق، من دون ان تفصل، كما قالت احدى النظريات اللبنانية، بين مسؤولية «حزب الله» من جهة والدولة اللبنانية من جهة أخرى، ووضعتهما في سلة واحدة.

 

ولذلك، فقد حمّلت الرياض رئيس الحكومة سعد الحريري أكثر من غيره مسؤولية فشله في حماية ما تعهّدت به حكومته، ونسبت اليه مواقف «متردّدة» لمنع تفاقم الأمور ولجم تصرفات «حزب الله» واركان من اهل الحكم، قادت حكومته برضاه او رغماً عنه، الى التراجع عن تلك التعهدات وعدم وضع حدّ لها، رغم كل الجهود التي بذلها. ولم ينسَ السعوديون في تلك المرحلة ان سجّلوا على أركان التسوية السياسية التي ولدت عام 2016، وجاءت بعون الى رئاسة الجمهورية بحلف معلن مع «التيار الوطني الحر» وغير معلن مع «حزب الله»، دورهم السلبي في منع الإنحراف بسياسة لبنان الخارجية التي قادها وزير الخارجية جبران باسيل في تلك المرحلة. فهو لم يتوان عن تبرير ما يحصل من تدخّلات في الشؤون الداخلية الخليجية في السعودية والبحرين كما في اليمن والامارات العربية المتحدة والكويت، حيث أُوقفت شبكات «ارهابية» اتُهمت بالتعاطي مع «حزب الله» وجمع المساعدات المادية له والقيام بأعمال تخريبية. فبقي لبنان وحيداً في مواجهة المجموعة العربية، متضامناً مع الديبلوماسيتين العراقية والجزائرية دون بقية الدول العشرين العربية. حتى انّ وزارة الخارجية رفضت إدانة الهجمات على منشآت «أرامكو» في حقلي أبقيق وهجرة خريص، التي شنتها في 14 ايلول العام 2019 طائرات مسيّرة وصواريخ كروز مجنحة ايرانية - حوثية، واستهدفت معملين لإنتاج النفط، أحدهما يُعدّ من أكبر معامل تكرير النفط في العالم.


 
 

ومن دون الدخول في تفاصيل تلك المرحلة، فقد حفلت الاشهر القليلة الماضية بما يهدّد علاقات لبنان مع الدول الخليجية، وخصوصاً انّ الحكومة اللبنانية لم تنجح في وقف عمل شبكات التهريب التي نقلت الاسلحة والممنوعات الى المملكة العربية السعودية ودول خليجية اخرى كالإمارات والكويت والبحرين، رغم معرفتها واعترافها بأنّ لكل واحدة من هذه الشبكات فريقاً من أبناء تلك الدول يتولّى مهمة تسلّمها وتسويقها. وما الجردة التي أجراها السفير السعودي وليد البخاري في لبنان في الأيام الاخيرة الماضية، بما يتعلق بالسعودية وحدها، سوى دليل على حجم ما انتهت اليه عمليات التهريب، الى درجة وصفها بأنّها كافية لإغراق العالم العربي بكامله بالمخدرات والممنوعات.

 

وبناءً على كل ما تقدّم، لن يكون من السهل على أحد ربط الإجراءات السعودية باكتشاف عملية «الرمان المخدّر». فالقرار سياسي قبل ان يكون أمنياً. ولو لجأت المملكة الى قرارها على خلفيات امنية لقطعت علاقاتها مع تركيا وباكستان وأفغانستان ودول اميركا اللاتينية التي تقوم فيها شبكات عابرة للقارات والدول في تهريب المخدرات والممنوعات. لذلك لن يكون من السهل معالجة هذه القضية بقرار امني او بمهمة يقوم بها وزير الداخلية العميد محمد فهمي. فالمعالجة ليست بهذه البساطة، ولن تكون بمقاربة الملف باتصالات من وزير الى وزير، وانّ الصعوبة تكمن انّ ما هو مطلوب من الحكومة اللبنانية اكبر بكثير من قدراتها. فهي بتورط عدد من قواها السياسية والحزبية والعشائرية في مثل هذه الشبكات، لن تقوى على مواجهتها، فكيف ان كانت اعمال التهريب بين لبنان وسوريا، والتي اعتُبرت عملية «الرمان المخدّر» واحدة منها قد احتُسبت من ضرورات «العمل المقاوم» كما برّر أحد قياديي «حزب الله» العمليات المشابهة التي طاولت الطحين والدواء والمحروقات بين البلدين؟

 

وختاماً، لا بدّ للمسؤولين اللبنانيين، ان يستعدوا للأسوأ. فالمقاطعة السعودية التي طاولت المنتوجات الزراعية قد تتوسع لاحقاً الى دول خليجية. فلا ينسى احد انّ انتاج المستوطنات الاسرائيلية في الجولان المحتل قد غزا اسواق بعض دول الخليج. فما الذي سيكون عليه الوضع ان استعاضوا عن كل ما ينتج من شبيهاتها في لبنان؟!