في مثل هذه الأيام، نيسان من العام 2005، خرج جنود الرئيس بشّار الأسد من لبنان. كانت تلك لحظة تاريخية للبنانيين، كما للأسد، ومفصلية للأميركيين والفرنسيين والسعوديين. لكن أحداً لم يعتبرها نهايةً للحرب. ومنذ ذلك الحين، أطلق الأسد اعترافاتٍ عابرة بـ«ارتكاب أخطاء»- تقنية طبعاً- في التعاطي مع لبنان خلال وجود جيشه هناك، لكنه لم يعترف يوماً بارتكاب «الخطأ الأساس»، أي الدخول إلى لبنان، ولم يقُل إذا كان يعتبر ذلك خطأً في الأساس.
 
على مدى 16 عاماً، تردَّدت في الأوساط الحليفة لدمشق مراراً عبارة «تصحيح خطأ 2005». والمقصود أنّ الأسد أُخِذ «على حين غفلة» آنذاك، في لحظةٍ اختلَّت فيها التوازنات التي كانت قائمة، وفُرِض عليه الانسحاب من لبنان، ولم يكن قد اقتنع (بَعد) بأنّ الوقت قد حان لينسحب.

 

يعني هذا الكلام، ضمناً، أنّ «خطأ» الانسحاب تحت تأثير ظروف دولية وإقليمية تقاطعت في لحظة معينة يمكن أن يعالَج، لأنّ هذه الظروف ستتغيَّر حتماً في لحظةٍ أخرى. وفي هذه الحال، تُعاد الأمور إلى ما كانت عليه.


 
 

يعني ذلك أنّ دمشق تطمح إلى إقناع «ذوي الشأن» في المنطقة والعالم، مجدداً، بمبرّرات دخولها إلى لبنان وتمدّدها عسكرياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً في عمق «الحالة اللبنانية»، على مدى عقود، وبدعمٍ وتغطيةٍ من هؤلاء. ومجدّداً، تطمح دمشق إلى ترسيخ حضورها في لبنان، فلا تنسحب إلّا «باقتناع» منها، لا «تحت الضغط».

 

ولكن، المأزق الذي غرق فيه لبنان، طوال «المرحلة السورية» بعد الطائف (1990- 2005)، كان يكمن خصوصاً في هذه النقطة: متى يقتنع الأسد بأنّ موعد الانسحاب من لبنان قد حان؟ وكان ممنوعاً على اللبنانيين حتى التفكير في هذه المسألة تحت طائلة التخوين.

 

ونجحت دمشق في اللعب على أوتار اتفاق الطائف، مستخدمة جدلية مضمونة النتائج: الانسحاب يتحقَّق بعد الإصلاحات. والإصلاح يعني إلغاء الطائفية السياسية. وإلغاء الطائفية أفضل طريقة لـ»تخويف» المسيحيين. والمسيحيون هم الصوت الوحيد المرتفع منادياً بالانسحاب، على الأقل حتى مؤتمر «البريستول».

 

للتاريخ: لم يكن الأسد يتصرَّف من تلقاء نفسه، ولم يكن يتحدّى إرادة المجتمع الدولي. والأخطاء والخطايا التي ارتكبها السوريون في لبنان لم تُحرِّك ساكناً عربياً أو دولياً. ووقف الرئيس جاك شيراك، صديق الرئيس رفيق الحريري، في المجلس النيابي، في تشرين الأول من العام 2002، ليُسكِت الأصوات المسيحية المنادية ببرمجة خروج القوات السورية، ويقول: «الانسحاب السوري الكامل من لبنان لا يتحقق إلّا بعد السلام في الشرق الأوسط». وأما الأميركيون فأوحى سلوكهم بأنّهم راضون عن نموِّ «حزب الله»، برعاية سورية.

 

إذاً، يريد الأسد تصحيح «الخطأ»، في أي لحظة تتيح له الظروف أن يفعل ذلك، خصوصاً أنّه تجاوز انتكاساته وحروبه الداخلية. وحلفاؤه اللبنانيون يدعمون خياراته على الأرجح.

 

لكن الجميع يدركون أنّ عودة سوريا بقواها العسكرية وجبروتها الأمني ووصايتها السياسية والاقتصادية شبه مستحيلة، لأنّ الظروف تغيّرت في سوريا ولبنان والمنطقة والعالم. إنما، هناك ثوابت في اللعبة لم تتغيَّر، وهي تترك المجال مفتوحاً لبعض النفوذ السوري.

 

على مدى عقود، باع الأسد موادَّ مختلفة للغرب مقابل إمساكه بالورقة اللبنانية، ومنها: استقرار لبنان، ضبط الخلايا الإرهابية، ضبط العمل الفلسطيني المسلّح والتهدئة في الجولان… وهذه الموادُّ ما زالت صالحة للبيع إذا وُجِد الشاري، وهو يمكن أن ينوجِد في أي لحظة. والأرض في لبنان مؤاتية جداً، لأنّ كل محاولات تأسيس الدولة، من دون وصاية، منذ العام 2005، انتهت إلى الفشل.


 
 

ثلاثة عقود مرّت بعد اتفاق الطائف، نِصفُها تحتَ وصاية السوريين (وسواهم ضمناً) ونِصفُها الآخر من دون وصايتهم (ولكن بوصاياتٍ كثيرة أخرى)، وما زال مشروع الدولة الـ»بلا وصايات» بعيد المنال جداً. وهذا ما ذكّر بمقولةِ الرئيس الياس الهراوي: «نحن شعبٌ لم يبلغ سنَّ الرشد».

 

اليوم، إيران أُمٌ شرعية للبعض، وسوريا أُمٌ لآخرين. والبعض يشكو لفرنسا وواشنطن مأزق تأليف الحكومة ويطلب المساعدة أو الوساطة للاحتماء من قوى لبنانية أخرى، فيقفز آخرون ليوسِّطوا موسكو أو يستقووا ببكين.

 

الطوائف قاصرة، والأحزاب والزعامات قاصرة، والدولة كذلك: قاصرةٌ بالمال، تستجدي الدول وبنكَها وصندوقَ نقدِها لمواجهة الجوع. وقاصرةٌ بأمنها «لا تمون» على شيء: من قرار الحرب والسلم مع إسرائيل إلى حبة الكبتاغون وصهريج المازوت. وقاصرةٌ بدستورها وقضائها وقوانينها: من التدقيق الجنائي إلى زلزال المرفأ.

 

في هذه الحال، إلا يُخشى أن ينبري أحدٌ ويقول: ما دام البلد قاصراً، والعناية به مُتعِبة، سَلِّموني أمورَه بتلزيمٍ جديد، فيريحُ الجميعَ ويستريح!