رغم قساوة الظروف التي يمرّ فيها القطاع المالي، ورغم المصير شبه المشترك بين مصرف لبنان والمصارف، إلّا انّ غريزة البقاء تُخفي معاناة كبيرة بين الطرفين، فيما يساهم الوقت الضائع في «تحسين» دفاتر المركزي، وخفض فرص إنقاذ الودائع.
 
حوالى 50 يوماً مضت على انتهاء مهلة تنفيد التعميم 154، وهي فترة كافية لكي تكون اللجنة المكلّفة تسلّم ملفات المصارف قد كوّنت فكرة اولية عن أوضاع القطاع، وان تكون عملية الفرز أحرزت تقدماً، بحيث أصبح واضحاً من هي المصارف التي نجحت في تنفيذ مندرجات التعميم بالكامل، ومن هي المصارف التي نفذت التعميم جزئياً، ومن هي المصارف العاجزة عن الالتزام بالبندين الاساسيين في التعميم، وهما رفع الرأسمال بنسبة 20%، وتأمين ودائع في حساباتها في المصارف المراسلة بنسبة 3% من مجموع ودائعها الدولارية.

 

حتى الآن، هناك تكتّم تام في شأن الخطوط العريضة للنتائج التي عاينها مصرف لبنان. ولا يبدو من المؤشرات المتوافرة وجود نية لفتح هذا الملف قريباً، لأسباب متعددة من أهمها:


 
 

أولاً- انّ قدرات مصرف لبنان المادية والمعنوية لا تسمح حالياً بأن يأخذ على عاتقه أي مصرف عاجز عن تلبية شروط إعادة الهيكلة.

 

ثانياً- انّ التوقيت غير مناسب لفتح الملف على مصراعيه، لأنّ ورشة من هذا الحجم يُستسحن ان تتمّ بالتزامن مع تغيير المشهد العام في البلد، اي بالتماهي مع بدء المفاوضات مع صندوق النقد الدولي للاتفاق على خطة إنقاذ.

 

ثالثاً- المصارف التي سيُحكم عليها بأنّها عاجزة عن الاستمرار، لا حاجة الى كشفها منذ الآن، ما دامت «الوظيفة» التي يضطلع بها المصرف حالياً بسيطة ويمكن ان تستمر، حتى لو كان المصرف بحكم المفلس مع وقف التنفيذ.

 

رابعاً- لا توجد مصارف كبيرة «مرتاحة» وقادرة على تولّي انقاذ مصارف صغيرة متعثرة كما كان يحصل في السابق.

 

خامساً- هناك تجاذبات غير مُعلنة بين مصرف لبنان والمصارف التجارية تنطلق من مبدأ حرب البقاء (survivor war). هذه المواجهة تقوم على مبدأ المنافسة على تنظيف الدفاتر وتحسين الحسابات تمهيداً ليوم «الحساب».

 

في هذا السياق، يمكن القول انّ المركزي والمصارف، ورغم قناعتهما بأنّهما على مركب واحد، الّا انّ كل طرف منهما يحاول ان يضمن بقاءه، وهذا ما يبرّر أحياناً عمليات التجاذب. ويبدو انّ مصرف لبنان، وبوجود فجوة كبيرة في حساباته، وهو الذي يعتبر انّ هذه الفجوة في دفتر الموجودات والمطلوبات لا يمكن تفسيرها على أنّها خسائر، يحاول ان يضيّق هذه الفجوة مع ضمان عدم وقوعه في مطب التوقّف عن الدفع، كما فعلت الحكومة اللبنانية في آذار 2020. لكن ما هو واضح، انّ تضييق الفجوة في دفاتر المركزي، والاستمرار في الدفع، يؤدّيان عملياً، ومنذ العام 2018، الى زيادة الضغوطات على القطاع المصرفي، والى نقل قسم من فجوة المركزي الى المصارف بسبب الخسائر التي قد تتراكم تباعاً، نتيجة اجراءات البقاء التي اعتمدها مصرف لبنان لتحسين دفاتره.

 

وبما أنّ مصرف لبنان يُمسك بالدولارات، ويُمسك كذلك بسوق القطع والتحويلات، وبما انّه يعتبر انّه ساهم بسياسته في تأمين ازدهار وأرباح القطاع المصرفي طوال السنوات التي سبقت انفجار الأزمة في العام 2019، فإنّه يفرض اجراءات اليوم تسمح له بضمان الاستمرارية وربما تضييق الفجوة المالية، مقابل تكبير خسائر المصارف التي ستُظهر نتائجها المالية نمواً كبيراً في خسائرها في العام 2020، وستكون الخسائر اكبر بكثير في العام 2021. ذلك انّ مصرف لبنان بات يشطب من ايداعات المصارف لديه، لتلبية حاجات هذه المصارف الى السيولة بالليرة، او حاجتها الى انجاز عمليات خارجية بالدولار. وبهذه الطريقة، ينجح المركزي في خفض الفوائد التي يدفعها الى المصارف مقابل ايداعاتها لديه، والتي تتراوح بين 70 و80 مليار دولار.


 
 

من هنا، من المستبعد ان يلجأ مصرف لبنان، في المدى المنظور، وطالما انّ الحكومة لم تتشكّل، ولم تبدأ مفاوضات الإنقاذ مع صندوق النقد، الى حسم موضوع إعادة هيكلة المصارف، وسيبقى هذا الملف مُجمّداً، وسيواصل المركزي في هذا الوقت الضائع عملية تحسين دفاتره، لكن المفارقة هنا انّه كلما طالت فترة الوقت الضائع، وكلما ردم مصرف لبنان الفجوة، كلما زاد حجم الفجوة في المصارف، بما يعني انّ المودع قد يدفع في النتيجة من حقوقه ثمن الوقت المهدور، والمسؤولة عنه السلطة السياسية دون سواها.