تؤمن فرنسا بسياسة الحوار والديبلوماسية ولا تؤمن بالسياسة العقابية، اي انّها تفضّل الضغط بالنقاش والحوار الصارِم وليس التهديد بفَرض العقوبات. هذا ما أوضحته سفيرة فرنسا آن غريو في لقائها الإعلامي الأول معنا، بعد تسلّمها مهماتها في لبنان، موضحة انّ التهديدات التي لمسها البعض في الخطابات العالية النبرة للرئيس الفرنسي، كانت عاملاً ضرورياً بهدف الضغط على المسؤولين المعنيين للتجاوب مع المبادرة الفرنسية، مضيفةً: «أقلّه بالنسبة الى السياسة التي أنتهجها شخصياً كسفيرة»، كما اكّدت غريو يومها، أنّها شخصياً مؤمنة بسياسة الديبلوماسية والنقاش مع الجميع والصرامة في الحوار... ولذلك اختارها الرئيس ايمانويل ماكرون في هذه المرحلة لتكون في لبنان.لافتة الى «أنّ فرنسا لا تهمّها العقوبات بمقدار ما يهمّها الوصول الى الهدف، ولديها طريقتها لتحقيق أجندتها». صحيح أنّ غريو امتهِنت الديبلوماسية إلّا أنّ مهمتها في لبنان حسب تعبيرها «لا تنفعها الأدوية الـ LIGHT بل الادوية الحازمة».

 

والسؤال المطروح اليوم: ماذا تبدّل لكي تعدل فرنسا عن استبدال ديبلوماسيتها بالعقوبات؟ فهل فشلت مهماتها ديبلوماسياً؟ وهل فقدت الأدوية الحازمة فعاليتها فلوّحت بالعقوبات؟ وما هو المدى الأقصى الذي تستطيع بلوغه في فرضها؟

ويقول مصدر ديبلوماسي فرنسي لـ»الجمهورية»: «نهجنا تغيّر لأننا أملنا في الحوار الذي بدأ منذ آب الماضي دون جدوى»، لافتاً الى «أنّ لبنان ينتظر تأليف الحكومة منذ اكثر من 8 اشهر بلا نتيجة، وهو الامر المحرج والخطير بالنسبة الى الشعب اللبناني الذي يعاني من غياب الحكومة والاصلاح واي تقدّم في هذا الاطار».

 

ويضيف المصدر: «الخوف من انّ الوضع في لبنان لم يعد في الإمكان السيطرة عليه، هذا الأمر الذي جعل فرنسا ينفد صبرها، وليس فرنسا وحدها، خصوصاً بعد تقديم المسؤولين الكثير من الوعود وبعد عقد كثير من المناقشات مع هؤلاء». ويتابع: «بالنسبة الينا، انّ المنظومة الحاكمة بمجملها تتصدّى بنحو متقن للتنصل من تحمّل مسؤولياتها، وهذا السلوك يجبرنا على تغيير منهجنا معهم، وكذلك تغيير مقاربتنا وتوجّهنا مقابل هذا السلوك. والتغيير هذا، إن في المنهاج او في طريقة تعاطينا مع هؤلاء، سيتمّ إن من خلال عقوبات او من خلال طرق اخرى مغايرة، اي يمكن الذهاب الى خيارات عدة اخرى او اتخاذ اجراءات جديدة قد تكون عقوبات وغيرها من الطرق التي تساعدنا في زيادة الضغط»، مشدّداً على القول: «الفكرة ليست معاقبة الاشخاص بل تعزيز الضغط».


 
 

ويقول المصدر الفرنسي: «يمكن لفرنسا اتخاذ خطوات على الصعيد الوطني، ويمكنها بعد ذلك اطلاق اجراءات على الصعيد الاوروبي، التي ستأخذ ربما وقتاً أطول لأنّها ستُحال الى المناقشة عبر الاتحاد الاوروبي لإيجاد أو خلق نظام عقوبات يمكن الارتكاز اليه قبل اتخاذ إجراءات عقابية».


 

أما على الصعيد الفرنسي الخاص، فيكشف المصدر، انّه «يمكن لفرنسا اتخاذ بعض الاجراءات المنفردة والادارية والقضائية»، موضحاً في الوقت نفسه «انّ لدى فرنسا الإمكانية، كما لديها وسائلها الخاصة لذلك… بمعنى أنّه يمكن فرنسا ان تتخذ تلك الإجراءات على صعيد وطني منفردة، كذلك يمكنها في المقابل التنسيق في مضمون هذه الإجراءات مع دول الاتحاد الاوروبي»، لافتاً الى «انّ فرنسا والاتحاد مترابطان ومتكاملان وغير متناقضَين».

 

العقوبات من يفرضها؟

 

لبنانياً، يشير الدكتور والأستاذ المحاضر في القانون الدولي رزق زغيب لـ»الجمهورية»، الى «أنّ لدى الاتحاد الاوروبي قوانين تُعنى بجرائم الحرب وبالجرائم ضدّ الإنسانية، وعلى هذا المستوى تتخذ اجراءاتها. انما اتخاذ اجراءات عقوبات في حق شخصيات متهمة بالفساد او بسبب انتماء سياسي داخل بلادها معارض لسياسة الاتحاد، فهو امر مستبعد لدى الاتحاد الاوروبي كمجموعة او حتى على صعيد الدول الاوروبية كل على حدة، فهو امر من المستبعد ان تلجأ اليه»، لافتاً الى «انّ للولايات المتحدة الاميركية وحدها القدرة على ذلك، ولها تاريخ في هذا الشأن، منذ قوانين هيلمز بورتن وداماتو كينيدي في 1996 ضدّ كوبا وايران وليبيا. فالولايات المتحدة الاميركية لديها القدرة على اتخاذ اجراءات بالعقوبات في حق اشخاص وشركات، اينما كان وجودهم في العالم، ولو لم يكونوا من رعاياها، لأنّ لديها الامكانية لجعل اختصاصها يتجاوز حدودها عبر قوانينها. وبالتالي يمكنها ان تُلزم الدول الاخرى، بحكم قوانينها وبحكم الدولرة والامر الواقع، على ان تستجيب لطلباتها في هذا المجال. اما الاتحاد الاوروبي، وفضلاً عن أنّه لا يمتلك القدرة، ليس لديه رغبة ايضاً، كما ليست لديه الآليات لذلك، وهو يعنى فقط بالجرائم ضدّ الانسانية الخاصة بأفراد يتقدمون بدعاوى وشكاوى فردية في هذا المجال، مثل بعض الحالات التي تقدّم بها افراد من سوريا حين لجأوا الى اوروبا، وتحقق فيها النيابات العامة في البلدان التي لجأوا اليها.

 

ومن هذا الباب يمكن الاتحاد الاوروبي الدخول، إنما بالنسبة الى لبنان فهو ليس في حالة حرب مماثلة، سواء لجهة جرائم حرب او جرائم ضدّ الانسانية، وحتى حالات الفساد المحلية طالما هي غير مرتبطة بمواطنين اجانب يشترك فيها الفرنسيون او الالمان او غيرهم، لا يحق للاتحاد الاوروبي التدخّل فيها. اما اذا اراد الفرنسيون اعتبار الحكومة اللبنانية مقصّرة من خلال عدم مساعدة شعبها الواقع في حالة الخطر، وهذا ما فُهم من تصريح وزير خارجية فرنسا لو دريان، فيمكنها بالتالي اللجوء الى مادة في قانون العقوبات الفرنسي الذي يتكلم عن الـ «non assistante en personne en danger» الذي يمكن ان يضع غياب الحكومة عن شعبها الواقع في خطر في اطار هذه المادة بالقانون الفرنسي، الذي يعتبرها جريمة، خصوصاً اذا كان هذا الطرف في موقع المسؤولية وقادراً على المساعدة، فتعتبره تلك المادة القانونية جرماً».


 
 

إلّا انّ الامر لا ينطبق، وفق زغيب، على حكومات او على الطبقة السياسية ككل، ولكن يمكن ان يُطبّق على افراد»، لافتاً الى «انّ وزير خارجية فرنسا يحاول ربما «شخصنتها» لإيجاد منفذ لإمكانية اتخاذ عقوبات، ويحاول «تكييفها» مع مادة قانونية، لكن في الامر صعوبة. إذ ليس بالسهولة تجميد حسابات الاشخاص او حتى منعهم من دخول الاراضي الفرنسية او الاوروبية الّا بحجة مقنعة. علماً انّ هؤلاء الافراد يمكن ان يرفضوا تلك العقوبات بطريقة ادارية وقضائية، والطلب من السلطات تعليلها وتبريرها، بمعنى انّه يمكنهم الاستفسار اذا كانت تلك الاجراءات عقاباً لهم وعلى ماذا؟ ووفق أي قانون؟ والسؤال عمّا اذا كان هناك خطر فعلي من اعطائهم تأشيرة مرور الى البلدان الأوروبية؟… وفي هذه الحال الادارة مضطرة الى الإجابة. ولذلك ستصعب المسألة جداً، بحسب زغيب، إلّا إذا صدر تشريع جديد عن فرنسا أو دول الاتحاد الاوروبي يتعلق بالعقوبات». مشيراً الى «انّ الممارسة المماثلة لم ينتهجها يوما أو قبلاً الاتحاد الاوروبي، بل انّ محاكمه الوطنية تتحرك فقط في القضايا المتعلقة بالجرائم الدولية والجرائم ضدّ الانسانية وجرائم الحرب. اما بالنسبة الى العقوبات الادارية في سلطات الاتحاد الأوروبي فهي لم تُتخذ ولا مرة».

 

وفي هذا السياق، وضعت مصادر حقوقية خطابات لو دريان في إطار الضغط على السياسيين اللبنانيين. أما بالنسبة الى إمكانية تجميد اصول او اموال شخصيات سياسية او اجتماعية لبنانية في فرنسا، فلفتت تلك المصادر الحقوقية، الى انّها لا ترى امكانية لدول الاتحاد الاوروبي بتجميد حسابات مسؤولين لبنانيين، من غير ان تكون تلك الملفات قد دخلت في آلية قضائية، تبدأ من لبنان وتحال بواسطة السلطات المرعية الإجراء الى الخارج. كما انّ ليس هناك وسيلة في القضاء الفرنسي تمكن النيابات العامة لديه بالتحرّك في هذا الإطار او تجيز لها الطلب من المصرف المركزي تجميد حسابات، قبل ان تكون هناك اجراءات قضائية لبنانية تتهم مسؤولين معينين بالفساد، والأهم في رأي تلك المصادر، ان يكون لهذه الدولة الاوروبية علاقة بهذا الفساد من جهة أو أخرى، اي لا يمكن الدول الاوروبية ولا من صلاحياتها ملاحقة الفساد حول العالم.