تُعدّ اللغة سمةً أساسية من سمات الحضارة الإنسانية وانعكاساً مباشراً للثقافة التي تنشأ  وتتطور فيها. وبقدر ما تشكّل اللغة مرآةً للمجتمع فتتأثر بمتغيّراته وتتفاعل معها، فهي أيضاَ عاملٌ مؤثرٌ ومغيّرٌ في هذا المجتمع.

 فاللغة الأم تؤثر على سبيل المثال بشكلٍ واضح على  نمط تفكير الشخص الذي يتكلم بها وعلى نظرته للعالم من حوله وعلى طريقة تصرفه، وبالتالي فإن اختلاف اللغات الأم بين البشر يؤدي بالضرورة الى اختلاف في أنماط تفكيرهم وتفاعلهم مع عالمهم. وفي دراسةٍ تؤكد هذا الرأي، قامت مجموعةٌ من الباحثين بسؤال متطوعين في كلٍ من إسبانيا وألمانيا عن الصفات التي يمكن أن يطلقوها على كلمة "جسر"، علماً أن هذه الكلمة مؤنثة في اللغة الألمانية  (Brücke) ومذكرة في اللغة الاسبانية (Puente)؛ قام المتطوعون الألمان بوصف الجسر "المؤنث" كبناءٍ ساحرٍ وجميلٍ وأنيق، بينما أطلق الإسبان على الجسر"المذكر " صفات الصلابة والثبات والضخامة، وذلك في مؤشرٍ واضح على تأثير اللغة (وهنا خاصيّة التأنيث والتذكير) على نظرة الإنسان لما يحيط به وطريقة تفكيره. 

وانطلاقاً مما سبق، يمكن اعتبار بعض جوانب اللغة العربية وبعض ظواهرها مؤشراتٍ فكريةً وإجتماعية و سياسية وحتى نفسية على ما يدور في العالم العربي. 

 

قد يكون من المنطقي تماماً البدء بظاهرة الجمود الذي تعاني منها اللغة العربية فيما يخصّ الكلمات والمصطلحات الجديدة وإضافتها الى معاجم اللغة. ففي حين نجد أن اللغة الإنكليزية على سبيل المثال تستقبل حوالي 5400 كلمة ومصطلح جديد كلّ عام (أي ما يعادل كلمة جديدة واحدة كل 98 دقيقة)، نرى في المقابل أن عملية إضافة الكلمات والمصطلحات الجديدة الى المعاجم العربية  شبه معدومة وذلك في مؤشرٍ واضح على الركود الفكري الذي يعاني منه عالَمٌ عربيٌّ يَئنُّ بمعظمه تحت وطأة الإستبداد والجهل والفقر. و تجنباً للتعميم المفرط، لا يجب في هذا الإطار إغفال الجهود الكبيرة التي تقوم بها بعض المجامع اللغوية فيما يتعلّق على وجه الخصوص بتعريب المصطلحات العلمية والتكنولوجية، إلا أن نتائج هذه الجهود تشكّل بدورها دليلاً بالغ الأهمية على الواقع المرير والتفكك الذي يعيشه العالم العربي الذي من المفترض أن يشكّل كياناً واحداً، على الأقل على الصعيد اللغوي إذ أننا نتشارك جميعنا لغة الضاد، فكلمة (Pendulum) الخاصة بحقل الفيزياء مثلاً يعادلها المصطلح المعرّب (بندول) في مصر ومصطلح (رقّاص) في العراق و مصطلح (نوّاس) في سوريا ومصطلح (خطّار) في الأردن؛ كذلك، وحتى في بعض الحالات التي تم فيها العمل على توحيد المصطلحات، بقيت هذه المحاولات ضعيفة الإنتشار نتيجة غياب التنسيق اللازم بين الدول العربية. 

 

أمّا فيما يخصّ اللغة العربية المحكية والتي تعتبر ذات دلالات إجتماعية ونفسية مهمة حيث أن الانسان العربي يستعملها في حياته اليومية وفي دائرته الخاصة، فقد تسلّط طريقة الأفراد في التعبير عن المفاهيم التي قد تُعتبَر "محرّمة" أو "غير لائقة" في المجتمعات المحافظة ضوءاً على الكثير من الجوانب، ومنها على سبيل المثال لا الحصر المصطلحات المتعلقة بالهوية الجنسية؛ ففي معظم الأحيان، يتم استخدام المصطلحات الأجنبية  - الانكليزية أو الفرنسية - عند الحديث عن المثلية او التحول الجنسي وذلك بشكلٍ عفوي. 

 


في تحليلٍ لهكذا ظاهرة لغوية، يمكن تفسير عدم إرتياح المتحدثين لإستخدام المصطلحات العربية المعنيّة بالشعور الضمني بعدم تقبل المجتمع للمفاهيم التي تعبّر عنها هذه المصطلحات  وذلك في إنعكاسٍ واضح للعقلية التقليدانية[1] التي لا تزال سائدة في المجتمعات العربية.  كما يعبّر هكذا تصرّف لغوي عن أزمة هوية  وغربةٍ حقيقية يعيشها الكثير من العرب وخاصةً الأجيال الشابة، فاللغة هي التعبير الأول عن الهوية وتجنب إستخدامها بالغ الدلالات في هذا الإطار.  كذلك، وفيما يخص ظاهرة سعي الكثيرين من مستخدمي اللغة العربية الى إقحام كلماتٍ أجنبية ضمن كلامهم في محاولةٍ لإبراز مستواهم الاجتماعي أو الثقافي أو حتى الإقتصادي "الرفيع"، فما ذلك إلا خير دليلٍ على تقليل هؤلاء من شأن ثقافتهم ولغتهم في تعبيرٍ واضح عن الدونيّة التي يشعرون بها تجاه الغرب والتي يمكن تصنيفها الترسبات والآثار "ما بعد الإستعمارية".

 

قد لا يتسع هذا المقال لتناول عددٍ أكبر من هذه الظواهر اللغوية  والتي يمكن لكلٍّ منها تشكيل مادة دسمة لدراسةٍ مستقلة، إلا أنه محاولة لجذب الأنظار الى أهمية اللغة كمؤشرٍ حيوي على أحوال المجتمع والإنسان. 


[1] في إشارة الى الفلسفة او المدرسة التقليدانية (او التقليداوية) التي تتبع نهجاً محافظاً في النظرة الى الحياة والمجتمع والحفاظ على الاشكال القديمة للقيم السياسية والدينية والاخلاقية لأنها بنظر المنادين بهاالتعبير العفوي عن الحاجات الحقيقية للمجتمع.

د. نور الشل