تخشى مراجع سياسية تواكب مجموعة المبادرات الداخلية المجمّدة والخارجية الغامضة، ان تضيع «البوصلة الحكومية». فكثافة الإتصالات وتشابكها لم ينتجا صيغة متكاملة، وخصوصاً انّ بعض المقترحات قفز فوق عملية التأليف قبل إتمامها، لترفع العوائق امام ولادة «حكومة المهمّة»، الى درجة افتقدت المفاجآت المحتملة، الى ان اعترف احدهم بأنّه «لم يعد هناك جَزر في الداخل للأرانب» وما علينا سوى البحث في استيراده...

لم تعد تُحصى المبادرات لتسهيل الولادة الحكومية والتي مرّت، باعتراف مراجع ديبلوماسية، في محطات اعتقد البعض انّها باتت على قاب قوسين او أدنى من عملية التأليف. وإن سُئل عن تلك المحطات النادرة التي غفل عنها عدد كبير من المراقبين المحليين والاقليميين، تكشف هذه المراجع انّها كانت محتملة في مرحلة فصلت بين جولتي المفاوضات الثانية والسابعة من اللقاءات التي جمعت رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلّف سعد الحريري عقب تكليفه مهمة التأليف، الى ان بلغت الثامنة عشرة بلا جدوى.

 

وفي اعترافات متأخّرة لأشهر عدة، كشف احد السفراء امام احد زائريه، انّه توسم خيراً من اولى جولات المفاوضات بين عون والحريري، عندما طرقت المفاوضات ابواباً لم تكن محتسبة، في ظلّ النفور الذي عبّر عنه عون من التوجّه الى تسمية الحريري في الاستشارات النيابية الملزمة، التي انتهت الى غير ما اشتهاه في 22 تشرين الاول الماضي، وتحذيره من هذه الخطوة.


 
 

وان استغرب البعض هذه الرواية القديمة، يلفت احد الديبلوماسيين العارفين، انّه كان يتابع بارتياح تلك المرحلة التي ما زال كثير من تفاصيلها غامضاً، وخصوصاً انّها شهدت تبادلاً للأسماء وتوزيعة مبدئية للحقائب منذ اللقاء الثاني بينهما، توصلاً الى تشكيلة كشف عنها الحريري، عندما تحدث عن لائحة «الأسماء الملونة» التي تسلّمها من عون. ويضيف، انّ الرجلين كانا مصرّين على إحداث صدمة في تلك المرحلة، قبل ان تدخل على الخط مجموعة من المعطيات الاقليمية والدولية التي عطّلت ايجابيات عدة. وهي التي انطلقت شرارتها مما انتهت اليه الانتخابات الرئاسية الاميركية، من اعادة خلط اوراق في المنطقة، عبّرت عنها اولى مواقف الرئيس الاميركي جو بايدن، والتي قطعت الآمال في إحداث تغيير كبير تجاه الملف النووي الايراني وازمات اقليمية عدة، وتوسعت لتأخذ مداها، فانعكست على مجموعة الأزمات الدولية من سوريا الى اليمن، وحيث الساحات التي تشهد النزاع الإيراني ـ الخليجي والأميركي.

 

في تلك المرحلة، ظهرت مجموعة التشققات في مفاوضات بعبدا، والتي ترجمتها المفاوضات التي استُجدت حول عملية تبادل الحقائب، تارة من جهة رئيس الجمهورية وأخرى من جهة الرئيس المكلّف، وبرزت عقدة وزير الطاقة، بعد تجاوز تلك التي تسببت بها حقيبة وزارة المال، امتداداً الى سلة ما سُمّيت الحقائب الأمنية والعدلية الثلاث، الدفاع والداخلية والعدل. الى ان تحوّلت عقدة كبيرة قادت الى مرحلة الفشل وتفجّر الخلاف اكثر من مرة، بعد بروز تشكيلة التاسع من كانون الاول الماضي التي سلّمها الحريري لعون، وتحولت مدار جدل بينهما، بعدما نفى رئيس الجمهورية تسلّمه «تشكيلة كاملة» طالما انّها كانت «خالية من وزيري «حزب الله» الشيعيين، قبل ان يضطر الحريري في المرحلة الاخيرة الى كشفها كاملة في اللقاء الثامن عشر بينهما، مرفقة بمجموعة السِيَر الذاتية المخصّصة لكل من الوزراء الثمانية عشرة.

 

واياً كانت الملاحظات التي بقيت ملكاً لعدد قليل من العارفين، فقد فهم الديبلوماسيون، انّ الإحتفاظ بسرّية المفاوضات في تلك المرحلة سمحت للرجلين برواية وقائعها وتسريب ما يشاءان من دون رقيب او حسيب. وبقي الامر على هذا النحو الى ان انطلقت الحملات الديبلوماسية الاخيرة التي اعقبت الخلاف الكبير الذي انتهى اليه اللقاء الثامن عشر في 22 آذار الجاري والذي عُرف بيوم «الإثنين الاسود». بحيث لم يعد هناك الكثير من الاسرار المخفية التي حفلت بها جولات المفاوضات القديمة.

 

على هذه الخلفيات، توقف المراقبون امام الحركة الديبلوماسية الاخيرة، لرصد المتغيرات التي انعكست على مساعي التأليف، فلم تجد جديداً يطمئن الى النتائج المتوقعة من المبادرات الداخلية والخارجية، والتي تلاشت واحدة بعد أخرى، الى ان بلغت المأزق القائم اليوم، في غياب أي مبادرة متكاملة قابلة للتطبيق ويمكن ان تقود الى عملية التأليف. فبعد ان اصطدمت مجموعة الافكار المتداولة بحائط فقدان الثقة وعناد عون والحريري وحلفائهما، تهاوت افكار واقتراحات المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم، وتلك التي نُسبت الى رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط، بالتوازي مع بروز الفريق الديبلوماسي الثلاثي الذي عبّرت عنه حركة سفيرتي الولايات المتحدة الاميركية دوروتي شيا وفرنسا آن غريو ومعهما السفير السعودي، الذين تحرّكوا بمبادرة شخصية او من خلال طلب رئيس الجمهورية على حدّ سواء، للعب دور الوساطة في اتجاه بعبدا وعين التينة و»بيت الوسط»، تزامناً مع حراك السفير الكويتي عبد العال القناعي في اتجاه «بيت الوسط»، او ذاك الذي قام به القائم بالأعمال البريطاني مارتن لونغدن في اتجاه رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل وما بينهم حركة السفير الروسي الكسندر رادكوف.


 
 

وان كان السفير البريطاني اول من تجرأ على التحذير من كارثة «لا يستطيع أصدقاء ‏لبنان منعها»، كما قال في تغريدته التي اعقبت حديثه الطويل، والذي لم يكن ايجابياً مع باسيل، فقد لاقاه السفير السعودي في وقت لاحق بموقف متشدّد آخر، رفض فيه الخروق الديبلوماسية التي تسببت بها موجة التسريبات لمواقفه بعد زيارة بعبدا، عبّر فيه عن القلق من مصير الوضع إن بقيت الامور جارية على ما هي عليه، متفرّغاً لجملة اتصالات جمعته مع نظرائه السفراء العرب والغربيين، بحثاً عن صيغة حل لم تولد بعد.

 

وفيما ينتظر مسؤولون كثر نتائج الحراك الديبلوماسي، فقد عبّر احد السفراء المعنيين امام زواره، عن انّ الانتظار سيطول. فلم تنتهِ اللقاءات الأخيرة الى اي نتيجة سوى انّها نقلت آخر المعطيات المتوافرة الى حكومات بلدانهم الاوروبية والغربية والخليجية، من دون ان تقترن بأي اقتراح عملي. فما بلغته الأزمة الداخلية في لبنان القت اعباء كبيرة على اصحابها، ومن يتجرأ على المعاندة، عليه في الوقت عينه احتساب كلفة هذه المواقف ونتائجها الكارثية على الشعب اللبناني، ومن لا يمكنه الصمود عليه التراجع قبل غيره.

 

وبناءً على ما تقدّم، فإنّ القلق سيبقى سيّد الموقف في الايام القليلة المقبلة. فمجموعة التحركات باتت رهناً بالحراك الدولي القائم بوسائل التواصل الالكترونية ومورد الحركة الديبلوماسية المباشر. وليس واضحاً ان كانت اللقاءات الاوروبية ـ الاميركية ستجد وقتاً لمناقشة ملف لبنان، فيما تتفرّغ الديبلوماسية الخليجية لملفات المنطقة الساخنة، من اليمن الى النزاع مع ايران. وما على اللبنانيين سوى تقليع شوكهم بأيديهم، علماً انّه لم يعد هناك «جَزَر» في لبنان لمجموعة «الأرانب» الداخلية التي إعتاد اللبنانيون ان يراهنوا عليها، وما عليهم سوى استيراده وبالعملة الصعبة المفقودة.