يفترض التمييز بين أزمة تأليف الحكومة التي ستتألّف عاجلاً أم آجلاً، وبين الأزمة اللبنانية التي لا حلّ لها سوى من خلال مبادرة بكركي.
 
الهدف من تأليف الحكومة لا يتعدّى محاولة فرملة الانهيار لتجنيب لبنان الفوضى التي تنعكس أولاً على دول الجوار، وتُسقط ثانياً سياسة تجميد الملفات والأوضاع المعتمدة، بانتظار اللحظة التي يُعاد فيها تشغيل محركات التسوية، ما يعني انّ لبنان مطالب دولياً في هذه المرحلة بأن يحافظ على استقراره إلى أن يحين أوان مفاوضات التسوية في المنطقة، وهذا ما يفسِّر المواقف الدولية المحذّرة من خطورة عدم تأليف حكومة سريعاً.

 

وفرملة الانهيار لا تعني نقل لبنان إلى ضفة الإزدهار، إنما منعه من الانفجار فقط لا غير، فيما الانفراج الحقيقي لم يعد يقتصر على تأليف حكومة، بعد ان بلغت الأزمة مستويات خطيرة باتت تستدعي مراجعة سياسية شاملة لإدارة الملف اللبناني برمته، وبالتالي جلّ ما هو مطلوب في هذه المرحلة وضع لبنان في ثلاجة الانتظار، ريثما تكون نضجت التطورات على مستوى المنطقة.


 
 

وإن دلّ هذا الأمر على شيء، فعلى انّ لا إرادة دولية بعد لفصل لبنان عن أزمة المنطقة، بل كل التركيز ينصبّ على منعه من الانهيار، وحركة السفراء المكثفة على خط الرئاسات ومواقفهم تؤكّد بأنّ الأولوية ما زالت نفسها، وهي تشكيل حكومة قادرة على تحقيق الإصلاحات، كمدخل لتلقّي المساعدات التي تُبقي الوضع ضمن الستاتيكو المقبول.

 

وتشكيل الحكومة مرتبط بعامل أساسي، وهو تجنيب لبنان الفوضى بسبب التدهور المالي المتواصل، وبالتالي العامل الضاغط للتأليف هو سقوط الاستقرار والهيكل اللبناني، ولولا هذا العامل لما كان التأليف مطروحاً قبل ان يضمن العهد خلافته ووضعه ومصيره بعد انتهاء ولايته، وهذا الأمر ليس تفصيلاً في حساباته، خصوصاً انّ وضعه الشعبي والسياسي اختلف كثيراً بين مرحلة دخوله إلى القصر الجمهوري ومرحلة خروجه منه.

 

ومن الثابت، انّ خلافته شبه مستحيلة، ليس فقط بسبب العقوبات الأميركية، بل لأنّ «حزب الله» لن يحجز الرئاسة للنائب جبران باسيل لخمسة أسباب أساسية:

 

السبب الأهم والأبرز يبدأ من داخل بيئة الحزب، حيث انّ تبنّي باسيل يختلف عن تبنّي العماد ميشال عون، لاسيما بعد فشل هذا الخيار ودخول البلد في الجوع والفقر، وتحميله مسؤولية تبنّي هذا التوجّه. والخلف لا يحظى بالشعبية التي كان يحظى بها السلف داخل هذه البيئة، التي من أولويتها إبعاد شبح الإنقسام عنها، وخلافة باسيل مسألة خلافية داخل بيئة الحزب من جهة، والبيئة الشيعية من جهة أخرى.

 

السبب الثاني، يرتبط بالدائرة الأكبر 8 آذار بشقيها المسيحي والسنّي، حيث انّ تبنّي الحزب لباسيل لن يمرّ مرور الكرام، وستكون له انعكاسات سلبية على العلاقة مع «المردة» من ناحية، وسنّة المعارضة من ناحية أخرى.

 

السبب الثالث، يتعلّق بالرأي العام اللبناني العريض، الذي وجّه الجزء الأكبر من انتفاضته ضدّ باسيل، ولا مصلحة للحزب باستفزاز هذا الرأي العام، الذي شكّلت مواجهته لباسيل بديلاً من مواجهة الحزب الذي يقف على نقيض هذا الرأي العام، وتبنّي ترشيحه سيجعله في مواجهة مباشرة مع الناس الناقمة، التي وضعت هدفاً لها باسيل والعهد، على قاعدة التخلُّص من الأسهل لمحاصرة الأصعب.


 
 

السبب الرابع، يتصل بالوضع المسيحي، وقد لا يهتّم الحزب بتراجع شعبية باسيل، لأنّ أولويته ان يوفِّر الغطاء المسيحي له ويؤمّن معه الثلث المعطِّل بدلاً من الفيتو، وصولاً إلى الأكثرية النيابية التي أصبح الحصول عليها من سابع المستحيلات، ولكنه يجد نفسه معنياً بألّا يكون في مواجهة مع بكركي التي اختلف موقفها بين مرحلة عشية انتخاب عون واليوم، وهو معني أيضاً بألّا يوحِّد الرأي العام المسيحي ضدّه، هذا الرأي العام الغاضب من العهد الذي أوصله إلى الانهيار وتغيير نمط عيشه.

 

السبب الخامس، يرتبط بالقوى السياسية الأساسية التي لا مصلحة للحزب بالدخول في مواجهة معها، وتوتير علاقاته مع شارعها، الأمر الذي يضعه في مواجهة سياسية من فوق، وفي توتير مع كل البيئات من دون استثناء من تحت، حيث انّ باسيل لم يترك حليفاً أو صديقاً باستثناء «حزب الله».

 

وفي موازاة تعذُّر انتزاع باسيل لتعهُّد من الحزب بخلافة عون، فإنّه يريد ان يضمن بالمقابل إمساكه بالثلث المعطِّل منفرداً كتعويض عن الخلافة، فهو لا يريد ان يخرج من السلطة «شيح بريح»، إنما ان يضمن نفوذه ودوره ومصالحه في مرحلة الفراغ الرئاسي، التي سيحاول ان يمدّها إلى أبعد الحدود، وان يكون في موقع المفاوض الرئاسي من السلطة وخارجها.

 

ويبدو انّ «حزب الله» يجد نفسه مربكاً حيال حليفه، فلا هو في وارد تبنّي ترشيحه الرئاسي، ولا هو راغب في دعمه بالثلث المعطِّل. ومن الواضح، انّ هذا الحليف يحاول ابتزازه بالكلام عن مراجعة التحالف والتمايز في بعض المواقف وغيره، في محاولة لأن ينتزع منه دعمه في الثلث المعطّل، إذا كان تبنيه الرئاسي متعذِّراً. وهذا ما يفسِّر تأرجح مواقف الحزب ووقوفه بداية على مسافة واحدة من رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف، وصولاً إلى اصطفافه الكامل إلى جانب العهد، من دون ان يتبنّى طبعاً توجّه الأخير باستبدال الحريري، حتى لو كان الأمر غير ممكن دستورياً، وما بينهما محاولة إقناع باسيل انّ الثلث المعطل مضمون في ظلّ تحالفهما، ولكنه وجد في نهاية المطاف ان ليس بإمكانه قطع الطريق عليه رئاسياً وفي الثلث المعطِّل في آن معاً، فتراجع في الثانية تاركاً للعهد بأن ينتزع هذا الثلث بعيداً عن ضغطه.

 

وأولوية باسيل في هذه المرحلة هي الثلث المعطِّل، الذي يشبه «العصفور في اليد»، فهو يريد ان يضع الثلث في جيبه، وعندما يحين وقت الرئاسة يفاوض ويناور عليها، ويراهن على الظروف وتبدّلها، ولكن من الصعوبة بمكان ان يتنازل عن ورقة يعتبرها أساسية وتمهيدية لمعركته الرئاسية. وعلى رغم نفيه لاستماتته على الثلث، جاء البيان الذي أصدره أمس الاول، على إثر الاجتماع الدوري للمجلس السياسي لـ»التيار الوطني الحر»، ليؤكّد المؤكّد، حيث ورد حرفياً: «الهدف الحقيقي من رفع الحريري عنوان الثلث زائداً واحداً يكمن في رغبته بأن يسمّي بنفسه الوزراء المسيحيين، فيكون له نصف أعضاء الحكومة زائداً واحداً»، ما يعني انّ باسيل يبرّر سعيه إلى الثلث + 1 من أجل منع الحريري من الحصول على النصف + 1، ولن يتردّد في استخدام اي حجة تحقيقاً لهذا الهدف، الذي يعتبره أولوية للإمساك بقرار السلطة في الربع الأخير من الولاية وما بعد الفراغ الرئاسي. ومن المستبعد ان تتشكّل الحكومة قبل انتزاعه هذا الثلث مباشرة أو مداورة، ويراهن على تراجع الحريري في نهاية المطاف بفعل الضغوط ولعبة حافة الهاوية.


 
 

وقد تنجح المساعي الدولية في توليد الحكومة، خصوصاً إذا كان لبنان يقترب أكثر فأكثر من انفجار ممنوع وغير مرغوب. ولكن وظيفة هذه الحكومة ستكون محدودة بفرملة الانهيار، فضلاً عن انّه لا يمكن في المطلق الرهان على حكومة في نهاية ولاية رئاسية، يتحوّل الهمّ الأول فيها إلى همّ رئاسي، وكيف بالحري مع فريق سياسي بدأ ولايته بالتهيئة للولاية التي ستليها، كما انّ حدّة الأزمة باتت أكبر من قدرة اي حكومة على مواجهتها، وبالتالي لن يكون الهدف من الحكومة العتيدة أكثر من منع الانفجار والحفاظ على الاستقرار، بانتظار ان تتبلور ظروف التسوية في المنطقة ومعالمها. وهنا بالذات تكمن أهمية المبادرة المزدوجة للبطريرك بشارة الراعي: الحياد والمؤتمر الدولي.

 

فلا حلّ للأزمة اللبنانية التي بلغت مستويات متقدّمة من الاهتراء والتفكّك من دون مؤتمر دولي، يعيد التأكيد على المسلمات والثوابت اللبنانية، من التمسك بالدستور والقرارات الدولية، إلى إعادة العمل بالحياد بضمانة دولية. وبانتظار ان ينعقد المؤتمر الدولي، سيبقى لبنان في وضعية المترنِّح الذي يعيش من حلاوة الروح، فلا سقوطه مطلوباً ولا مرغوباً، ولا ازدهاره ممكناً عن طريق حكومة، كل المطلوب منها دولياً، إبقاء البلد ضمن المرحلة الانتقالية إلى ان يحين أوان التسوية الإقليمية، التي حجزت فيها بكركي مقعداً متقدّماً وأساسياً عنوانه: لا حلّ في المنطقة من دون حلّ الأزمة اللبنانية، ولا حلّ في المنطقة على حساب لبنان.