أياً كانت ردات الفعل المعلنة والمكبوتة على نبأ «التواصل» بين البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي والامين العام للامم المتحدة أنطونيو غوتيرس، فإنه شكّل في توقيته ومضمونه مدعاة ارتياح لدى فريق من اللبنانيين ومثار قلق لدى آخرين لمجرد تناوله ليس لضرورة تأليف حكومة بل «الحفاظ على لبنان بعيداً عن النزاعات». ولكنه، وفي الحالتين يؤسس لمرحلة متقدمة لا يمكن تجاهلها. فكيف ولماذا؟

قبل البحث في الأسباب الموجبة الى قادت الى هذا الإتصال غير المألوف بين المرجعيتين اللبنانية والاممية الذي تم الثلاثاء الماضي، في ظل حجم المعرفة الشخصية بين الرجلين فإنه لا بد من التوقف امام ما سبق هذا الحدث وما رافقه وما يمكن ان يؤدي اليه على اكثر من مستوى محلي واقليمي ودولي. وعلى رغم استخفاف كثر بما اعلن عنه ومحاولة التقليل من اهميته في مواجهة من يعطيه حجمه واهميته التي يستحقها، لا يمكن نفي وجود من يبني عليه من أحلام وآمال بعيدة المدى.

 

وبمعزل عن هذا الانقسام في الرأي والنظرة الى اهمية ما حصل، وهو امر طبيعي في بلد كلبنان. فإنّ الفشل الذريع الذي أثبته اهل الحكم في إدارة شؤون البلاد والعباد عزز من اهمية ما حصل بكل معانيه. وان إثارة الموضوع في هذه اللحظة التاريخية له أبعاده التي لا تخفى على كثير من العارفين بشكل العلاقات الدولية وانعكاسات مثل هذه الخطوات على مستقبل بعض الشعوب والاوطان. وإن توقف هؤلاء امام ما يمكن ان تقود اليه مثل هذه المبادرات، لا يسعهم سوى إلقاء الضوء على الآليات التي خبرتها دول عاشت ازمات مشابهة على ندرتها، فهي لم تعرف سوى هذا الطريق الاممي للانقاذ والتعافي بعد فشل مجموعة الخيارات الداخلية التي لم تؤت ثمارها.


 
 

وقبل الدخول في كثير من التفاصيل، لا بد من الإشارة الى المشهد السياسي الذي رسمته التطورات الاخيرة في لبنان، والتي قادت الى مثل هذا الإتصال. وفي مقدمها تجاهل اركان السلطة ومن بيدهم قرار الحل والربط كل المبادرات التي اطلقت من الداخل والخارج لمواجهة ما هو قائم من أزمات، الى ان تعمقت وتشعبت وتناسلت حتى شملت مختلف وجوه حياة اللبنانيين. ولا يخفى انها باتت تهدد مصير شعب بكامله يتجه الى مزيد من الفقر والجوع الى درجة فقدان أمنه الغذائي والصحي والاجتماعي من دون تفرقة او تمييز بين طائفة او مجموعة او منطقة وأخرى. فالجميع باتوا في مركب واحد يخوضون المواجهة الصعبة بقدرات محدودة ان لم تكن مفقودة في ظل أسوأ الأزمات التي لم يعرفها لبنان واللبنانيون من قبل.


 

وإن اعترف البعض انّ ما بلغته التطورات يعكس حجم وعمق الازمة التي هددت ربما للمرة الأولى مصير المؤسسات الدستورية وصولا الى عجزها عن القيام بأدنى واجباتها تجاه شعبها وفقدانها شرعيتها الدستورية والشعبية، الى درجة يمكن ان تنعكس مخاطرها على الامن والسلم الدوليين. وهو ما يقود في حال إثباته قولاً وفعلاً الى ما يمكن تسميته انهيار النظام. ويكفي لإثبات ذلك الاقرار أنّ المسؤولين قد بلغوا مرحلة الفشل في إدارة الازمات المتشابكة والعجز عن قيامهم بمهماتهم الدستورية وما أُنيط بهم من مسؤوليات نتيجة الخروج الكامل عما يقول به الدستور والقانون واللجوء الى منطق القوة وفرض الاعراف، لِما لهذه الحالة من مخاطر لا تقدر نتائجها السلبية إن مَسّت وحدة الدولة ومؤسساتها لتطاول الوطن والكيان وأبسط حقوق الشعب في الامن الصحي والغذائي وبقية الحقوق ومعهم المقيمون على الاراضي اللبنانية.

 

عند هذه المعطيات، توقف المراقبون الديبلوماسيون في قراءتهم لمعنى البحث الذي شهده التواصل بين البطريرك الماروني والامين العام للامم المتحدة، كدليل على فقدان الجهات او الشخصيات الرسمية التي يمكن ان تتعاطى بمثل هذه الملفات الوطنية الكبرى. وهو امر يجب ان ينظر إليه من باب القانون الدولي وحق الامم المتحدة في التدخل تحت اي فصل من الفصول المسموح بها في النظام الدولي وقوانينه المانعة لانهيار دول تنتسب الى الامم المتحدة ووقف الانهيار المقدّر. فليس أدلّ على مثل هذه المعطيات سوى العودة الى تقارير البنك الدولي ومنظمة الاغذية الدولية التي أشارت في تقاريرها الاخيرة الى جملة المخاطر التي وصل اليها الشعب اللبناني وتجاوز الخطوط الحمر المعترف بها.

 

وهو أمر يُقاس دولياً بما بلغته نسبة الفقر والجوع في لبنان بعد فقدان العملة الوطنية قيمتها الشرائية، لتضاف الى فقدان المعايير الصحية والإجتماعية والتربوية عندما عجزت الدولة عن الإيفاء بديونها الخارجية وحماية نظامها المالي والمصرفي من الانهيار، وفقدانها التواصل الطبيعي مع المصارف المراسلة والمراجع المالية الدولية بعد التصنيف السلبي لهذه القطاعات، وصولاً الى ادنى الدول المصنّفة فقيرة تحت خط التنمية عند بلوغ الحد الأدنى اللاجور بأقل من دولارين في اليوم الواحد. كما تقاس بفقدان مصادر لقمة العيش نتيجة بلوغ البطالة مستويات لم تألفها. وما يزيد في الطين بلة ان اعلنت الهيئات الاقتصادية والمؤسسات التجارية عن عدم قدرتها على التواصل مع الخارج، لتأمين الأدوية والغذاء والمشتقات النفطية والمواد الاولية التي يحتاجها القطاع الصناعي والزراعي.


 
 

ومن هذه المعايير بمختلف وجوهها، يمكن النظر الى مضمون المحادثات التي جرت بين الراعي وغوتيريس لتشكّل أول انذار فعلي الى الطاقم السياسي العاجز عن تلبية حاجات الناس ومطالبهم بحكومة فاعلة كاملة المواصفات الدستورية بمعزل عن اشخاصها وحصص اهل الحكم فيها وطريقة توزيع حقائبها. ولتكون حكومة مؤهلة لإعادة التواصل مع الدول والمؤسسات المانحة من اجل البت بالاصلاحات الموعودة التي تسمح بإعطاء السلطة الجديدة شهادة حسن سلوك دولية مطلوبة بإلحاح تمهّد الى نيلها إذن العبور الى مصادر التمويل سواء بالهبات او المساعدات المالية التي يحتاجها لبنان، ومن اجل الانطلاق في مسيرة الانقاذ والتعافي أياً كانت التحديات المطلوبة. فما تحمّله الشعب من ذل واحتقار، عليه ان يتحمّل بكل سرور مصاعب المرحلة المقبلة اذا وجد من ينير له الطريق في النفق المظلم الى الضوء مهما كان بعيداً.

 

على هذه القواعد، يتطلع من استطاع قراءة الإتصال ـ الحدث بين بكركي ونيويورك في شكله ومضمونه وتوقيته، علماً انه تزامن مع حراك أوروبي ودولي وأممي وضع ملف لبنان امام مجموعة المؤتمرات الاوروبية والعربية والدولية التي عقدت قبل ايام وتلك المنتظرة في الساعات المقبلة بمعزل عن محاولة استثمار بعض المحطات الداخلية ديبلوماسية كانت ام سياسية. فهي لا تقاس بحجم ما تشهده المنطقة من مشاريع تفاهمات اتفاقيات وتحولات قد تطيح بالوطن الصغير الى مرحلة لا يعود ينفع فيها الندم، وتظهر سخف الادعاء بانتصارات صغيرة ووهمية لا تطعم فقيراً ولا توفر مأوى لمواطن اقترب من فقدان الامل بيومه ومستقبله.