يتساءل كثيرون، في لبنان وفي الخارج، عن الدور الذي يمكن أن تلعبه الجالية اللبنانية في الولايات المتحدة في عهد الرئيس جو بايدن، من أجل حمل الإدارة الأميركية الجديدة على مساعدة لبنان في حل المشاكل الإقتصادية والسياسية الصعبة جداً التي يعاني منها في الظرف الحالي.

من الضروري التوضيح في البداية أنّ هنالك عوامل هامة تحول دون تمكين الإدارة الحالية من تخصيص وقت وجهد كبيرين لمساعدة لبنان، أهمها الإنشغال شبه التام بالأولويات الداخلية، وفي طليعتها محاربة جائحة كورونا، والسعي الى إنعاش الإقتصاد الوطني الذي تراجع كثيراً بسبب هذه الجائحة. لقد فاز بايدن بالرئاسة مركّزاً حملته الإنتخابية على هذين الأمرين، وعليه الآن معالجتهما وإعطائهما الأولوية في اهتماماته.

 

من الأسباب الأخرى التي تحول دون إعطاء الوضع اللبناني الإهتمام الكافي، هي أنّ كبار الموظفين اللبنانيي الأصل في إدارة بايدن، مكلفون بملفات لا علاقة مباشرة لها بلبنان، مثل الدكتور بشارة شقير المسؤول عن ملف التلقيح ضدّ كورونا على كافة الأراضي الأميركية، أو السيد هادي عمر المسؤول عن ملف العلاقات بين الفلسطينيين وإسرائيل، ومع أنّ كلاً من هاتين الوظيفتين هام جداً، إلّا أنّ لبنان ليس داخلاً في صلاحيات أي منهما. يضاف الى ذلك، عدم وجود عدد معقول في الكونغرس من الأعضاء اللبنانيي الأصل، للضغط على الإدارة لمساعدة لبنان، مثلما كان يفعل جورج ميتشل ونك رحال وجيمس أبو رزق وغيرهم، في العهود السابقة.


 
 

إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب كانت تضمّ وزيرين من أصل لبناني، (وزير الدفاع ووزير الصحة)، وهاتان الوزارتان هما أهم وزارتين في الولايات المتحدة من حيث الميزانية، إلّا أنّ أياً من هذين الوزيرين لم يدفع إدارة ترامب نحو مساعدة لبنان بشكل ملموس، وذلك نظراً إلى شخصية ترامب وطريقته في إدارة شؤون البلاد، حيث كان يسيطر سيطرة تامة على جميع قرارات الدولة.

 

وإذا كانت إدارة بايدن منشغلة بأمور داخلية أساسية، فهذا لا يعني أنّ لبنان غير وارد في جدول أعمال سياستها الخارجية، علماً أنّ هذا الإهتمام يأتي على صعيد أدنى من رئاسة الدولة. ويمكن اختصار الخطوط العريضة للسياسة الأميركية الحالية تجاه لبنان بالأمور التالية:

 

أولاً: بعد مرور ستة أشهر على تفجير مرفأ بيروت، حصل لقاء افتراضي بين وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن ونظيره الفرنسي جان إيف لودريان، صدر بنتيجته بيان مشترك، يجدّد دعم البلدين للشعب اللبناني في مجالات الصحة والتعليم والسكن والغذاء، كما يؤكّد على ضرورة إنجاز التحقيق في تفجير مرفأ بيروت وتشكيل حكومة فاعلة وذات صدقية، تستطيع تحقيق الإصلاحات الضرورية لتأمين الدعم للبنان من المجتمع الدولي.

 

ثانياً: من أهم عناصر السياسة الأميركية تجاه لبنان، دعم الجيش اللبناني بالعتاد والسلاح الدفاعي وبالدعم السياسي أيضاً، وقد تجسّد ذلك بقدوم الجنرال كينيث ماكنزي، قائد القيادة المركزية الوسطى الى لبنان، وقيامه بزيارة على رأس وفد عسكري وبرفقة السفيرة الأميركية في لبنان، إلى قائد الجيش العماد جوزف عون، بتاريخ 15 آذار الجاري، لتأكيد استمرار دعم الولايات المتحدة للجيش اللبناني.

 

ثالثاً: لا بدّ أيضاً من ذكر المساعدات الإنسانية التي ترسلها الولايات المتحدة الى لبنان في مناسبات مختلفة، والدعم الذي تقدّمه لجمعيات تُعنى بموضوع حقوق الإنسان والحرّيات العامة، ومتابعة الأحداث والتطورات التي تحصل على الساحة اللبنانية، مثل موضوع اغتيال الناشط لقمان سليم، وإصدار بيان استنكار على إثره من قبل وزارة الخارجية الأميركية.

 

رابعاً: السعي الى تفعيل مفاوضات ترسيم الحدود البحرية والبرية مع إسرائيل، دون أن يغيب عن بالنا، أنّ مصلحة إسرائيل في هذا المجال تتقدّم على أي اعتبار أميركي آخر.


 
 

خامساً: اهتمام الولايات المتحدة بنشاطات «حزب الله»، الذي تعتبره منذ زمن منظمة إرهابية.

 

معروف أنّ في الولايات المتحدة جالية لبنانية تتمتع بمركز اجتماعي محترم وفيها أيضاً، وخصوصاً في العاصمة واشنطن، عدد لا بأس به من المنظمات غير الحكومية التي تُعنى بالشأن اللبناني، سواء على صعيد تقديم المساعدات الإنسانية أو التعليمية أو الإجتماعية أو حتى السياسية. فهل تستطيع هذه المنظمات أو بعضها أن تشجع الإدارة الجديدة على إيلاء الشأن اللبناني اهتماماً إيجابياً أكبر؟

 

تلعب جماعات الضغط (المسماة لوبي) دوراً هاماً في كيفية إصدار القوانين واتخاذ القرارات، سواء في الكونغرس او في الإدارة على مختلف المستويات. لوبي صناعة الأدوية مثلا ولوبي المدافعة عن حمل السلاح واللوبي الإسرائيلي، معروفة قوتها على الساحة الأميركية، وهي تموّل الحملات الإنتخابية للمرشحين الذين يؤيّدون مبادئها وأولوياتها. فاللوبي الإسرائيلي على سبيل المثال، يطلب أجوبة خطية من المرشحين للانتخابات لمقاعد في الكونغرس، عن أسئلة واضحة، حول مدى تأييد المرشح لإسرائيل، وحول سائر أولويات السياسة الإسرائيلية، بما فيها طبعاً المشاريع الإستيطانية، والإعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وفي ضوء الأجوبة الخطية عن هذه الأسئلة يُتخذ القرار بدعم هذا المرشح أو ذاك.

 

لقد حصلت محاولات عديدة في الماضي القريب والبعيد لإنشاء لوبي لبناني يتولّى الدفاع عن القضايا اللبنانية أمام الإدارة والكونغرس، وذلك عبر جمع عدد من المنظمات اللبنانية الأميركية تحت مظلة مشتركة، ولكن هذه المحاولات لم تنجح، بسبب عدم وجود رؤيا لبنانية موحّدة تجاه قضايا الوطن الأم، يُضاف الى ذلك، أنّ الحرب التي وقعت بين عامي 1975 و1990 أدّت الى وصول أعداد كبيرة من المهاجرين الجدد، الذين لم يتمكنوا من نسيان الإنقسامات السياسية اللبنانية. كما أنّ التطور الكبير في وسائل النقل والتواصل، جعل وضع الجاليات اللبنانية في بلاد الإغتراب عامة، بما فيها الولايات المتحدة، صورة عن الوضع السياسي المنقسم في لبنان.

 

من هذا المنطلق، قد يكون من الصعب حصول تحرّك لبناني عام تجاه الإدارة الأميركية الجديدة، تتجاوز موضوع المساعدات الإنسانية، الذي لا يوجد خلاف حوله، كون الخلافات في صفوف الجالية هي على الأمور السياسية وليس الإنسانية. ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أنّ بعض المنظمات اللبنانية- الأميركية، التي لها علاقات وثيقة وقديمة مع بعض أعضاء الإدارة والكونغرس، لن تستطيع إيصال مطالب في أمور محدّدة، مثل نداء البطريرك الراعي للحياد، أو دعم الإدارة الأميركية للكشف عن ملابسات تفجير مرفأ بيروت.


 
 

تقوم حالياً ثلاث منظمات بإعداد دراسة مشتركة عن لبنان، سيتمّ تقديمها قريباً الى وزير الخارجية الأميركية أنطوني بلينكن، تشرح الوضع اللبناني بصورة عامة، وتضع بعض الإقتراحات، مطالبة الإدارة باعتماد سياسة واضحة تجاه لبنان، مع التركيز على تأييد المبادرة البطريركية للحياد، وضرورة تشكيل حكومة دون تأخير، وإجراء الإصلاحات الضرورية الآيلة إلى محاربة الفساد، وغير ذلك من الأمور التي يمكن للإدارة أن تضغط على المسؤولين لتحقيقها، في سبيل إخراج لبنان من الوضع الخطير الذي هو فيه الآن.

 

وهذا لن يمنع بالطبع منظمات لبنانية - أميركية أخرى، كل واحدة ضمن برنامج عملها وأولوياتها، من التواصل مع من لها علاقة معهم من المسؤولين الأميركيين، للمطالبة بما تراه مناسباً للبنان من منظورها الخاص. هذه الأمور تحصل بصورة مستمرة، وليست مرتبطة بما يمرّ به لبنان حالياً من ظروف استثنائية.

 

ولا بدّ هنا من التساؤل، ما إذا كانت الإدارة الجديدة ستتجاوب مع مطالب هذه المنظمات. وجدير بالتوضيح، أنّ إدارة الرئيس جو بايدن لم تضع بعد سياسة واضحة المعالم تجاه لبنان، إلّا أنّ لديها بعض الأولويات في المنطقة تتقدّمها مصلحة إسرائيل، ثم محاربة الإرهاب، والعلاقة مع إيران، التي سيحدّدها مصير الإتفاقية النووية، وأي موضوع لبناني له علاقة بإحدى هذه الأولويات سيتمّ التعاطي معه من هذا المنطلق.

 

يمكن من هنا التكهن، أنّ سائر القضايا اللبنانية التي لا تؤثر على الأولويات الأميركية في المنطقة، يمكن ان تكون موضع درس من قِبل الإدارة، وفقاً لمصالحها ولعلاقاتها مع الذين يتقدّمون باقتراحاتهم، ووفقاً أيضاً للضغوط التي قد تتعرّض لها من قِبل أعضاء فاعلين في الكونغرس، في حال استطاع بعض اللبنانيين إقناعهم بتبنّي هذه القضية أو تلك.

 

وعليه، لا يُستبعد أن تلبّي الإدارة الأميركية الجديدة بعض الطلبات اللبنانية، مثل زيادة المساعدات الإنسانية، وتعزيز الدعم للجيش اللبناني، والإسراع بتشكيل الحكومة وإنجاز التحقيق في تفجير المرفأ. أما موضوع حياد لبنان، فمن المستبعد أن تتبنّاه الإدارة وتعلنه من البيت الأبيض، إن لم يكن مقروناً بحياد تجاه النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني، وهذا أمر لا يقبله لبنان لأسباب مبدئية وأخلاقية وإنسانية، بالإضافة الى الأسباب الواقعية الناجمة عن وجود نصف مليون لاجئ فلسطيني في لبنان، مع ما يشكّله هذا الوجود من أعباء اقتصادية واجتماعية وديموغرافية.


 
 

ولكن رغم ذلك، ليس مستبعداً أن يصدر تصريح عام عن وزير الخارجية أو من ينوب عنه، يعلن أنّ الولايات المتحدة لا تعارض اتفاق اللبنانيين في ما بينهم على مبدأ الحياد، دون أن تتخذ الإدارة الأميركية أي إجراء عملي في هذا الإتجاه.

 

ولا بدّ من التأكيد في الختام، أنّ عدم وجود رؤيا موحّدة للجالية اللبنانية تجاه الوطن الأم، يحول دون تمكّنها من تشكيل جماعة ضغط، تستطيع مطالبة الإدارة الأميركية باتخاذ قرارات مؤيّدة للبنان ومفيدة له بصورة عامة، ويبقى تأثيرها بالتالي مقتصراً على أمور غير أساسية.