على رغم العلاقات الوثيقة بين «حزب الله» وروسيا، اكتفى الطرفان دائماً بالتنسيق المباشر من خلال طاقم السفارة في بيروت، وما اعتاد «الحزب» زيارة موسكو إلّا ضمن فترات متباعدة. ولذلك، يعلِّق كثيرون أهمية بالغة على محادثات «الحزب» الحالية في العاصمة الروسية، خصوصاً أنّها تأتي على أبواب تحوُّلات إقليمية مفصلية.

تترقَّب الأوساط الديبلوماسية الغربية في بيروت نتائج محادثات «الحزب» في روسيا. فهو اختار لها وفداً سياسياً بامتياز، برئاسة النائب محمد رعد الذي يُكلَّف عادةً بملفات سياسية حسّاسة. وكان آخرها، قبل أشهر، مفاوضة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول مبادرته للتسوية.

 

طبعاً، يدرك الروس أنّ «حزب الله» ينسِّق عضوياً خطواته مع إيران، محلياً وإقليمياً. وعندما يوجِّهون إليه الدعوة إلى نقاشٍ سياسي، فإنّهم يفعلون ذلك بالتنسيق مع طهران وتحت جناحها. ومن الطبيعي أيضاً أن يقوم «الحزب» نفسه بتنسيق محادثات زيارته ونتائجها مع إيران، لأنّها المعني الأول بها.


 
 

هذا يفترض أنّ هناك أمراً تفصيلياً يريد الروس أن يناقشوه مع «الحزب»، تحت مظلَّة إيران وبموافقتها. وعلى الأرجح، المسألة تتعلّق بتفاصيل الوضع اللبناني الداخلي كما بالمسائل الإقليمية التي ينخرط فيها «الحزب»، وهي سوريا في الدرجة الأولى، ثم اليمن والملف الخليجي عموماً.

 

المطلعون يقولون إنّ القيادة الروسية وجدت الفرصة سانحة لتنطلق في مهمَّة استطلاع واسعة في الشرق الأوسط. ففي واشنطن، لا تزال إدارة الرئيس جو بايدن تبحث عن مسار بديل لسياسة «الضغط الأقصى» التي اتبعها الرئيس دونالد ترامب مع إيران، وهذا ينعكس على حلفائها في المنطقة: إسرائيل، تركيا والمملكة العربية السعودية. وأما الأوروبيون فمربكون ولا أوراق يمتلكونها.

 

قاعدة الانطلاق التي يتحرَّك الروس من خلالها في الشرق الأوسط هي سوريا، لسببين:

1- هناك يمتلكون الأوراق القوية، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، من خلال إمساكهم بنظام الرئيس بشّار الأسد في شكل كامل، بعدما كانت إيران تتولّى هذه المهمّة منفردة، حتى العام 2015.

2- على الأرض السورية، يتشارك الروس في الصراع مع حلفاء الولايات المتحدة الإقليميين، إسرائيل وتركيا والسعودية، إضافة إلى إيران. وإذا نجحت موسكو في رعاية تسويات بين القوى المتنازعة هناك، ولو بموافقة الأميركيين، فإنّها ستكتسب رصيداً كبيراً في الشرق الأوسط.

 

يريد الرئيس فلاديمير بوتين تثبيت حليفه الأسد على رأس السلطة، لـ7 سنوات أخرى، من دون إثارة إشكالات دولية كبرى. وفي الواقع، تراجعت الضغوط العربية والدولية ضدّ الأسد إلى الحدّ الأدنى. لكن الانتخابات الرئاسية المقرَّرة في نهاية أيار المقبل ربما تفتح الباب لمقايضةٍ معينة، أو لبقاء الأسد ضمن شروط.

 

والحلّ الذي يسعى الروس إلى تكريسه في سوريا يقوم على تسوية مع المعارضة تعطيها بعض الحضور، ولكنها لا تنتزع السلطة من الأسد، ولو بعد حين. ويُقال إنّ موسكو تقوم بتهيئة الأجواء لحسم الوضع مع تركيا في إدلب وسائر الشمال السوري، تسهيلاً للتسوية المرغوب فيها.

 

ولكن، الأهم هو أنّ موسكو تعمل لإطفاء الشكوى الإسرائيلية من نشر إيران لصواريخها الدقيقة في الجنوب السوري. وحتى اليوم لا يصدر عن الروس أي اعتراض على الضربات الإسرائيلية للأهداف الإيرانية في كل سوريا. وفي الموازاة، يتردّد كلام على دور روسي في تحقيق تواصل إسرائيلي- سوري برعاية روسية.


 
 

وفي المعلومات أيضاً، أنّ موسكو تسعى إلى تحقيق تقارب بين إيران والأسد من جهة، ودول الخليج العربي، بدءاً من الإمارات العربية المتحدة من جهة أخرى. لكن الظروف لم تنضج بعد لتحقيق خروقات. والاستنفار الديبلوماسي الروسي الحاصل حالياً هو جزء من هذا المسعى.

 

يدرك الإيرانيون أنّ موسكو ستقلِّص نفوذهم في سوريا، وبالتالي في الشرق الأوسط ككل. لكنها تبقى ضمانتهم الدولية التي يثقون فيها، ولا يمكنهم التخلّي عنها. فالأفضل لهم أن يحافظوا على نفوذ معيَّن في سوريا، ولو تحت سقف الرعاية الروسية، لأنّ البديل سيكون انسحابهم التام وتراجع نفوذهم في سوريا ولبنان. وهنا تحديداً تكمن دقّة الدور الذي يضطلع به «حزب الله»، من الخليج إلى سوريا فلبنان.

 

إذاً، ماذا تريد موسكو في لبنان حالياً، وما دور «الحزب»؟

 

يقول العارفون: ليس دقيقاً أنّ أولوية النقاش بين الروس ووفد «الحزب» هي الملف الحكومي. إنّه هذا تفصيل، على أهميته. فموقع «حزب الله» الإقليمي يبقى هو المنطلق، ومنه ينتقل النقاش إلى مستقبل لبنان ودور «الحزب» فيه. وتقوم نظرة موسكو على أرضية واقعية، وهي أنّ أي مقاربة للحل في لبنان يجب أن تحظى برعاية عربية وأميركية أيضاً.

 

تنظر موسكو إلى الانهيار اللبناني المتنامي بقلق. فهو يثير المخاوف من التفكّك والفوضى بكل معانيها. وهذه مسؤولية كبيرة ستلقى على عاتق الدول الكبرى، ما سيفرض إنتاج صيغٍ وطنية جديدة وقيام معادلات جديدة للقوى.

 

وفي تقدير المراقبين، أنّ المؤتمر الدولي الخاص بلبنان قد يصبح أمراً واقعاً، على غرار المؤتمر المخصَّص لسوريا. وسيدعمه الأميركيون والأوروبيون، ولا يقف الروس حجر عثرة أمامه. وعلى أرض الواقع، روسيا تمتلك الرصيد لإقامة توازن مع القوى الغربية، وهي أيضاً تمتلك القدرة على ممارسة «الفيتو» في مجلس الأمن الدولي.

 

فوفق ذلك، يتوقع هؤلاء المحللون أن يكون لروسيا دور في تسهيل استئناف المفاوضات المتوقفة حالياً بين لبنان وإسرائيل، بحيث لا تتحوَّل عنصر تفجير إضافي في لبنان.

 

إذاً، نقاشات «حزب الله» في موسكو تذهب إلى ما هو أعمق بكثير من تفاصيل اللحظة السياسية في الداخل. ويحاول الروس تجنيب لبنان مرارة الأسوأ بكل المقاييس. وعلى الأرجح، هم يريدون من حليفهم أن يقدِّم هو وحلفاؤه التسهيلات لإمرار الحلول وتجنُّب التعقيدات الآتية، والتي ستوقع الجميع في مأزق.


 
 

وثمة من يعتقد أنّ الأوروبيين يراهنون أيضاً على نجاح المبادرة الروسية لأنّها تشكّل مخرجاً لنزاع «الحلقة المفرغة» الأميركي- الإيراني. لكن، ستقوم إيران و»حزب الله» بموازنة الأرباح والخسائر لاتخاذ قرار. فهل سيقتنع «الحزب» بنظرية التسهيل الروسية، وقبل أن يَدْهَم الوقت الجميع؟