عندما نتناول موضوع العبودية الطوعية، لا يقتصر الطرح على الجوانب السياسية للمجتمعات، بل يتخطاها ليطال كافة جوانب الحياة الإجتماعية والإقتصادية والثقافية أيضاً، فيصبح تقبّل الإملاءات نمطاً سائداً يتبنّاه الفرد، فيكون عبداً للتقاليد والعادات المجتمعية وعبداً للأسواق الإستهلاكية وعبداً للإتجاهات والتيارات الثقافية الأكثر انتشاراً فيما يخص على سبيل المثال الموسيقى واللباس وحتى الأذواق والميول الجمالية ، ويفقد بالتالي فردانيته و قدرته على الإبتكار والإبداع.
 

يُستخدَم مصطلح "الأبوية" (Paternalism) في وصف السلوكيات التي تتّبعها السلطة للحدّ من حرية الأشخاص والمجموعات تحت حكمها بحجة الحفاظ على مصالحهم وتحقيق الرفاهية ومنع الأذى عنهم. وفي أحيانٍ كثيرة، قد يُستخدَم هذا المصطلح ضمن سياقٍ سلبي إذ أن الأنظمة الأبوية غالباً ما تتبنى هذه السلوكيات بمعزلٍ عن إرادة المجموعات المعنيّة أو حتى خلافاً لهذه الإرادة. 

 

 

وإنطلاقاً من تعريف الأبوية هذا، نستطيع أن نستخلص أنَّ معظم ما يُسمّى بالديمقراطيات القائمة في عالمنا العربي هي "ديمقراطيات أبوية"؛ فهي انظمة ديمقراطية بمعنى أنها تكسب شرعيتها عبر صناديق الإقتراع إلا أنها تستخدم أدواتٍ وأساليبَ مختلفة تتضمن غالباً نَفَساً أبوياً متكبراً، فتتصرف الطبقة الحاكمة وكأنها أكثر حكمةً و أعمق فهماً من المواطنين؛ كذلك، قد لا تتوانى هذه الأنظمة عن نشر معلومات مغلوطة للتأثير على المواطن وجعله يتبنى خياراتٍ خاطئة أو يتخلى عن حقوقه أو يرضى بتقييد حرياته بمحض إرادته. 

 


ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما يحصل في العديد من الدول العربية التي يوضع فيها المواطن أمام خيارين إثنين لا ثالث لهما، الأمن أو الحرية؛ ويرتبط هذان الخياران ببعضهما إرتباطاً سالباً أي أن ازدياد نسبة أحدهما يتطلب حتماً تدنياً في مستوى الآخر والعكس صحيح. وطبعاً، أمام هذا الواقع، لن يتردد "المواطن المستقر" (الذي يشكّل جزءاً أساسياً من المجتمعات الأبوية) في إختيار الأمن كأولوية. 

 

 

بالإضافة الى التكبر النخبوي والتلاعب الذي تمارسه الديمقراطيات الأبوية، تظهر الدراسات علاقةً عضويةً وإرتباطاً وثيقاً بين هذه الأنظمة والفساد. ففي حين أن الديمقراطية الحقّة تأخذ بالإعتبار آراء المواطنين والمجموعات المختلفة وتجاربهم وخبراتهم من أجل وضع السياسات المختلفة، يضع أصحاب السلطة في الأنظمة الأبوية سياساتهم حسب ما يتناسب مع مصالحهم الخاصة او مصالح أحزابهم أو المجموعات التي ينتمون إليها. وتجدر الإشارة هنا الى أن الدافع وراء هكذا سلوك لا يكون بالضرورة الفساد في بادئ الأمر إذ أن النمط الأبوي يجعل من يستلمون السلطة يعتقدون أن ما يناسبهم يناسب الآخرين بالتأكيد وأن ما يرونه صحيحاً هو الحلّ الأمثل للجميع؛ ولكن، سواء كان الدافع الأساسي الفساد أم كانت هناك دوافع أخرى، فالنتيجة واحدة:  نظامٌ يستشري فيه الفساد، نظامٌ غير قادرٍ على وضع السياسات الصحيحة وتقديم الحلول الناجعة، نظامٌ يشبه الى حدٍّ كبير الأنظمة الدكتاتورية والمستبدّة التقليدية ويتشارك معها العديد من الصفات؛ فالديمقراطيات الأبوية تُسهِم، مثل الدكتاتوريات تماماً،  في خلق ما أسماه الفيلسوف والقاضي الفرنسي "لا بويسيه" (La Boétie) بالعبودية الطوعية، عبودية نتخلى فيها طوعاً عن حريتنا وحقوقنا.  

 

 

ولا يكون الخوف وحده هو الدافع وراء هذا الذلّ الإختياري إذ إن موافقتنا شرطٌ أساسيٌ ومطلوب؛ فنحن نتحوّل بإرادتنا الى عبيد للأنظمة لإعتبارنا أن العبودية أكثر أمناً من الحرية المحفوفة بالمخاطر. 

 

 

وعندما نتناول موضوع العبودية الطوعية، لا يقتصر الطرح على الجوانب السياسية للمجتمعات، بل يتخطاها ليطال كافة جوانب الحياة الإجتماعية والإقتصادية والثقافية أيضاً، فيصبح تقبّل الإملاءات نمطاً سائداً يتبنّاه الفرد، فيكون عبداً للتقاليد والعادات المجتمعية وعبداً للأسواق الإستهلاكية وعبداً للإتجاهات والتيارات الثقافية الأكثر انتشاراً فيما يخص على سبيل المثال الموسيقى واللباس وحتى الأذواق والميول الجمالية ، ويفقد بالتالي فردانيته و قدرته على الإبتكار والإبداع.

 

 

أما بالنسبة للتخلّص من العبودية الطوعية، فالحلّ، بحسب لا بواسيه، بسيطٌ ولاعنفي: كلّ ما في الأمر أننا يجب أن نسحب موافقتنا التي منحناها طوعاً للأنظمة. وباسترجاع هذه الموافقة، نكون خطونا أولى خطواتنا نحو الحرية. لكن مفهوم الحرية بحدّ ذاته قد يطرح هنا جدليةً فلسفية فنجد من يقول: إذا كانت الحرية مقدّسة،  فكيف لنا سلب أحدهم حريتَه في "التخلي عن حريتِه" ما دام هذا التخلي طوعياً؟ 

 

 

 د. نور الشل.