واليوم، يبدو أنّ البطريرك ما زال على دأبه في محاولة التخفيف من حدة طروحاته السياسية، وما المساعي لإحياء حلقات الحوار مع حزب الله، الواقف بحدّة في وجه الحياد عن الصراعات الإقليمية والدولية المحتدمة.
 

تستطيع بكركي (مقر البطريركية الأنطاكية السريانية المارونية) أن تُفاخر بتراثها العريق في قيام دولة لبنان الكبير، ورعاية كيانه ونظامه قبل الإستقلال وبعده، وفي الذكرى المئوية لولادة لبنان الكبير (١٩٢٠) تذكّر الجميع الدور الكبير الذي لعبه البطريرك الياس الحويّك (١٨٤٣-١٩٣١)، فهو البطريرك الماروني الثاني والسبعين بدءاً من العام ١٨٩٩ وحتى تاريخ وفاته، وكان مُدافعاً مخلصاً عن إنشاء لبنان الكبير بحدوده الحالية، أمّا البطريرك بولس المعوشي فهو البطريرك الرابع والسبعين الذي وقف في وجه الرئيس كميل شمعون بسبب تأييده لحلف بغداد، وكان صديقاً للرئيس جمال عبد الناصر، ومُؤيّداً لفكرة القومية العربية مع الحفاظ على السيادة الوطنية والاستقلال، ووقف معارضاً لاتفاق القاهرة عام ١٩٦٩، لما فيه من مساس بالسيادة اللبنانية لصالح منظمة التحرير الفلسطينية، وطالب بإنهاء حكم الرئيس شمعون، وأيّد وصول قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب لمنصب الرئاسة الأولى.

 

 

كان البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير الذي انتُخب في ١٩ أبريل عام ١٩٨٦ بطريركاً لأنطاكيا وسائر المشرق، وقاد الكنيسة المارونية خمساً وعشرين عاماً حتى استقالته عام ٢٠١١ بداعي التّقدم في السّن، دعمَ صفير اتفاق الطائف عام ١٩٨٩، الذي وضع حدّاً للحرب الأهلية، ونال ما ناله من اعتداءاتٍ من أنصار الجنرال عون، وقاد صفير حملة قاسية مُناهضة للوصاية السورية على لبنان، وحفظ له التاريخ الدور الذي لعبه في إطلاق نداء مجلس المطارنة الموارنة الذي طالب بانسحاب القوات السورية من لبنان عام ٢٠٠٠.

 

 

إقرأ أيضا : باسيل وطرفة بن العبد والقبّرة..خلا لكِ الجوّ فبيضي واصفري

 

 

منذ أيامٍ معدودات طالب البطريرك مار بشارة الراعي بالحماية الدولية للكيان اللبناني ونظامه، والتفّت حول نيافته أوساطٌ سياسية وسيادية عدّة، ورأت في خطوته الجريئة هذه خروجاً على مسار التّردّد وعدم الوضوح الذي حكمَ خطابه وفعالياته السياسية صعوداً وهبوطاً،منذ وصوله إلى سدّة البطريركية قبل عشر سنوات، فلطالما راعى البطريرك الراعي وضع الرئيس عون الحرج، الذي انهارت مقومات الدولة في عهده، ولم يتّخذ موقفاً حازماً ضدّ عهدٍ يسير بالبلد إلى الهلاك المحتوم، وما زال اللبنانيون يذكرون طروحات البطريرك الراعي حول ضرورة الالتزام بالحياد في علاقات لبنان الدولية قبل أشهرٍ عدّة، ليسعى بعد ذلك للتّخفيف من وقع هذه الطروحات على بعض القوى السياسية ، وفي مقدمها حزب الله.

 

 

واليوم، يبدو أنّ البطريرك ما زال على دأبه في محاولة التخفيف من حدة طروحاته السياسية، وما المساعي لإحياء حلقات الحوار مع حزب الله، الواقف بحدّة في وجه الحياد عن الصراعات الإقليمية والدولية المحتدمة، إلاً من هذا القبيل، فالحزب يرفض رفضاً قاطعاً وضع لبنان تحت أيّة حماية أو تدخلاتٍ غربيةٍ في شؤون لبنان المأزومة هذه الأيام، فهل يُكمل البطريرك الراعي مسار البطاركة الموارنة الذين كانوا قولاً وفعلاً خلاص هذا البلد المنكوب، أم أنّ "جهنم" الموعودة هي قدرنا الذي لا مفرّ منه.