هل هناك فرصة حقيقية لتحويل الطرح الذي أطلقه البطريرك مار بشارة الراعي واقعاً على الأرض، أم سيبقى هذا الطرح مجرد «موقف للتاريخ»؟

في ليل السبت الفائت، نزلت مجموعات غاضبة من الخندق الغميق إلى «الرينغ»، أحرقت إطارات، وانتشرت أخرى في مار مخايل حيث الرمزية لـ «حزب الله» و»التيار». وتكرَّر «الغضب» في اليوم التالي.

 

هذا «الغضب» المفاجئ هو بالتأكيد رسالة إلى البطريرك الماروني مار بشارة الراعي. لكن الذين يقفون وراءه حرصوا على القول إنّه يتعلق باحتجاج على انقطاع التيار الكهربائي.


 
 

هذا يعني أنّ «حزب الله» لا يريد فتح مواجهة مع بكركي. إنّه أكثر حكمةً من الوقوع في خطأ من هذا النوع. فالمواجهة مع الصرح، اليوم، تعني المواجهة مع المسيحيين عموماً. وحتى أنصار «التيار الوطني الحرّ» يتناغمون مع مناخات بكركي في الحياد واللامركزية، بل كانوا دائماً أشدّ المتحمسين لها، وكأنّهم يتفهَّمون أنّ تموضع قيادتهم المعارض لهذا الطرح تفرضه ضرورات سياسية لكنه ليس أصيلاً.

 

لذلك، تَجنّب «الحزب»، عبر كوادره، توجيه أي انتقاد مباشر للبطريرك. وعلى العكس، هو يضغط لاستيعاب موقفه «إيجاباً» بحيث يتمكَّن من «تنفيسه». وفي اقتناعه أنّ هذا هو السبيل الأسهل والأضمن.

 

ويتردَّد في أوساط «الحزب»: «يراهن بعضهم على التدويل كما فعلوا في مراحل سابقة. ولكن، هذه المرّة أيضاً ستنتهي المراهنة بالفشل، لأنّ الظروف السياسية محلياً وإقليمياً ودولياً ليست ملائمة. والأفضل عدم الدخول في مغامرات مجرَّبة».

 

ومسألة «الظروف الملائمة» تبدو فعلاً هي الرهان الأساسي بالنسبة إلى طرح بكركي. فكثيرون يسألون: هل سيتمكن فريقٌ لا يملك إلّا الهالة المعنوية هو بكركي، على رأس مجموعة منقسمة، هي المسيحيون، وفي بلد ضعيف، من فرض خيارٍ كبير بحجم المؤتمر الدولي والحياد، وسط تحدّيات واستحقاقات تعصف بالشرق الأوسط؟

 

وإلى أي حدّ سيتمكّن البطريرك وفريق العمل المواكب من إيصال هذا الطرح قوياً وقابلاً للحياة إلى طاولة المقايضات بين القوى الإقليمية والدولية، والتي يستعدّ لها الشرق الأوسط في الأشهر المقبلة، وعلى مستويين: الملف الإيراني والملف الإسرائيلي بتشعباتهما وتداخلهما؟

 

يستتبع ذلك السؤال الآتي: هل يطمئنّ الراعي إلى وجود ضمان دولي بأنّ طرحه يمتلك حظوظ الحياة؟


 

المطلعون يقولون: «الحديث عن ضمان دولي ليس دقيقاً. وعملياً، هناك دعمٌ دولي واحد يمكن للبطريرك أن يرتكز إليه في شكل مطلق، هو دعم الفاتيكان. فمستوى التواصل والتنسيق بين البطريرك والكرسي الرسولي هو اليوم في أعلى مستوياته. والتغطية التي يوفِّرها الفاتيكان يمكن أن تشكّل منطلقاً دولياً مناسباً للمبادرة.


 
 

وعلى الرغم من أنّ أياً من القوى الدولية لم تعلن موقفاً اعتراضياً تجاه الطرح البطريركي، ولا سيما الحياد اللبناني، فإنّ عقد المؤتمر الدولي من أجل لبنان يحتاج إلى تغطيةٍ من القوى الكبرى الأعضاء في مجلس الأمن، بما فيها روسيا والصين. وطبيعي أن تحدِّد كل قوةٍ دولية موقفها بناء على المصالح والتحالفات التي تقيمها في الشرق الأوسط. ولذلك، يستلزم إنجاح الطرح دعماً وطنياً وورشة اتصالاتٍ ديبلوماسية، لشرح إيجابيات المؤتمر والحياد على الاستقرار الداخلي والإقليمي.

 

العارفون يقولون إنّ فرنسا أبلغت الى بكركي مراراً، وبوضوح، أنّها تدعم طرح الحياد. وأما موقف الإدارة الأميركية الجديدة تجاه لبنان فما زال قيد التبلور، لأنّ واشنطن لم تنطلق أساساً بمبادراتها تجاه الشرق الأوسط. لكن الالتفاف الذي حظي به الصرح من قوى وطنية عدّة، ومن قوى انتفاضة 17 تشرين الأول، يثير انتباه الأميركيين والجهات الدولية الفاعلة.

 

إذاً، على الأقل، وفي الوقت الضائع، خلق البطريرك الراعي معطى سياسياً جديداً على الساحة الداخلية، لم يعُد ممكناً لأحد أن يتجاوزه أو أن يتجاوز صاحبه. والرصيد الشعبي والسياسي الذي كوَّنه البطريرك في الأسابيع الأخيرة أعاد بكركي محور استقطاب من الباب العريض، بعد تراجع في السنوات الأخيرة.

 

والأكثر أهمية توقيت طرح بكركي. فهو يأتي عملياً على أبواب مرحلةٍ يتوقع الخبراء أن يبلغ فيها الفشل والانهيار ذروته. فتعثُّر تشكيل الحكومة هو أحد مظاهر الدولة الفاشلة. وقد يضغط «حزب الله» لتسريع قيام حكومة «تنفِّس» طرح البطريرك، لكنها ستكون حكومة تكريس الانهيار. وسيملأ الفراغ انتظار التسويات التي ستأتي من المفاوضات الأميركية- الإيرانية وسواها.

 

ولذلك، يأتي طرح البطريرك في محطة زمنية حسّاسة، وعلى أبواب سنة 2022 الذي سيحمل استحقاقات التغيير السياسي. وفي عبارة أكثر وضوحاً، يأتي طرح البطريرك محاولة لضمان استمرار الكيان اللبناني، في مرحلة الإنقلابات في الأنظمة والتعديلات في الخرائط والمعادلات التحالفية الجديدة في الشرق الأوسط. ومن هنا دقّة التوقيت الذي جاءت فيه طروحاته، والتحدّي في نجاحها أو فشلها.

 

أحد المتابعين للطرح البطريركي سُئل: «هل طرح البطريرك واقعي»؟ فأجاب: «البطريرك مار نصرالله بطرس صفير أطلق نداءه في العام 2000. وفي ذلك الوقت، اعتبر كثيرون أنّه لن يكون سوى صرخة ضائعة. لكن السوريين خرجوا فعلاً من لبنان بعد 5 سنوات. هل هي مصادفة التزامن؟ بالتأكيد لا.


 
 

لقد كان نداء صفير جزءاً من حركة الربيع الآتي في العام 2005، وقد تولّت بكركي آنذاك تظهيرها، أولاً لأنّ هذا هو موقعها الطبيعي، وثانياً لأنّ القوى المسيحية (رئيس الجمهورية والغالبية النيابية) كانت أسيرة الخط المعاكس، ولأنّ القوى غير المسيحية لم تكن مهيأة للمجاهرة».

 

اللافت أن البطريرك كلَّف الدكتور رضوان السيّد إعداد الكتاب إلى الأمم المتحدة، خلال زيارة وفد «سيدة الجبل» لبكركي قبل أيام. ولهذا الأمر مدلولاته الوطنية لجهة استعادة مناخات قرنة شهوان والبريستول.

 

كل ظروف 2000 قائمة اليوم. فهل يتكرَّر السيناريو؟