منذ إقامة دولة إسرائيل في منتصف أيار 1948، وعقب إعتراف الرئيس الأميركي هاري ترومان بها بعد 11 دقيقة من إعلانها واعتراف الإتحاد السوفياتي بها بعد ذلك بثلاثة أيام، تمتعت إسرائيل بدعم وتأييد الإدارات الأميركية المتتالية، وإن بتفاوت حتى حرب 1967. فالرئيس آيزنهاور لم يكرّس جهداً للدفاع عن إسرائيل أو عن قضية اللاجئين الفلسطينيين، إذ كانت هذه القضية خارج اولوياته، كما انّه لم يكن يعير اهتماماً خاصاً لليهود الأميركيين، الى درجة أنّه أبلغ الى أحد أصدقائه أنّه أعطى «...تعليمات واضحة لوزارة الخارجية أننا سنهتم بأمورنا، وكأنّه لا يوجد يهودي واحد في أميركا، وسيكون ازدهار بلدنا ومصالحه المعيار الوحيد الذي نعمل بموجبه».

كذلك وقف آيزنهاور إلى جانب مصر أثناء الإعتداء الثلاثي عليها (إسرائيل وفرنسا وبريطانيا) عام 1956، وأرغم إسرائيل على الإنسحاب من سيناء التي كانت احتلتها في تلك الحرب، إلّا أنّه لم يحاول إطلاقاً القيام بأي مسعى من أجل حلّ القضية الفلسطينية وإنصاف الشعب الفلسطيني الذي طُرد من أرضه، إذ لم تكن هذه القضية، كما سبق وأشرنا، من ضمن اهتماماته.

 

بدأ الإهتمام الأميركي بإسرائيل وبدعمها بقوة غير مسبوقة على حساب الشعب الفلسطيني إبان حرب 1967، التي خلقت عطفاً قوياً لإسرائيل على الساحة الأميركية، خصوصاً بعد انتصارها على الجيوش العربية المتحالفة ضدّها. كذلك في العام 1973، أثناء حرب تشرين، نظّم الرئيس نيكسون جسراً جوياً لنقل شتى أنواع الأسلحة لإسرائيل، ما قلب الإنتصار المصري بعبور قناة السويس واسترداد القسم الأكبر من شبه جزيرة سيناء إلى هزيمة.


 
 

منذ ذلك التاريخ، بدأت الإدارات الأميركية المتعاقبة تسعى الى إيجاد حل للقضية الفلسطينية يُرضي الفريقين قدر المستطاع. ولكن إسرائيل كانت تفشّل هذه المساعي الواحد تلو الآخر، ملقية اللوم على الجانب الفلسطيني، علماً أنّ الإقتراحات الأميركية والمطالب الإسرائيلية كانت غير ممكنة القبول من الفلسطينيين، لأنّها كانت لمصلحة إسرائيل بنحو فاضح.

 

المواقف الأميركية المعلنة للإدارات المتعاقبة، بما فيها إدارة الرئيس باراك أوباما، كانت كلها تعطي دوراً للمفاوض الفلسطيني، وتحاول تخصيص كيان للفلسطينيين يقيمون عليه دولتهم، وإن بمساحة وشروط تختلف حسب المفاوض الأميركي وحسب الشروط التعجيزية التي كان يطالب بها الجانب الإسرائيلي. إنما الأمل في إقامة دولة فلسطينية كان دائماً ملازماً لتلك المفاوضات، ولكن أياً من الرؤساء الأميركيين لم ينجح في الوصول الى حل لهذه القضية المزمنة.

 

الرئيس نيكسون مع وزير خارجيته كيسنجر والمفاوضات المكوكية لم ينجح، وبعده كارتر واتفاقيات كمب ديفيد التي أنهت الحرب بين مصر وإسرائيل، ولكنها لم تحلّ القضية الفلسطينية، ثم ريغان مع فيليب حبيب الذي وضع اتفاقية لإخراج المقاتلين الفلسطينيين من بيروت ونقلهم الى تونس من دون حل للقضية، وبعده جورج بوش الأب ومؤتمر مدريد والمفاوضات في واشنطن بين الوفود العربية وإسرائيل من دون نتيجة، ثم كلينتون واجتماعات «واي ريفر» التي بقيت هي أيضاً بلا نتيجة، فجورج بوش الإبن الذي وضع خريطة طريق لحل هذه القضية، فالرئيس أوباما الذي لم تكن علاقته جيدة برئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، ولم يتمكن من إحراز أي تقدّم على صعيد حل القضية.

 

ثم جاء دونالد ترامب ووعد، منذ بداية حملته الإنتخابية، بأنّه سيحلّ هذه القضية بعقد ما سمّاه «صفقة القرن»، وعيّن صهره جاريد كوشنيرعلى رأس وفد من مستشارين اثنين هما جايسون غرينبلات والسفير الأميركي في إسرائيل ديفيد فريدمان، وتمّ تكليفهم وضع حلّ لهذه لقضية المزمنة، والثلاثة معروفون بتأييدهم المطلق لإسرائيل وبالإنحياز التام لمصلحتها وبالتبرع للمستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

 

الرئيس ترامب أقفل مكتب فلسطين في واشنطن وألغى مساهمات الولايات المتحدة في موازنة وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، ثم اعترف لإسرائيل بحقها في ضمّ الأراضي الفلسطينية المحتلة وكذلك الجولان السوري، وذلك بعد أن اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده من تل ابيب إليها. في اختصار، هذه هي معالم «صفقة القرن» التي وعد ترامب بأنّها الأساس لحلّ القضية الفلسطينية.


 
 

على خلفية إخفاقات اسلافه جميعاً في الوصول الى حلّ للقضية الفلسطينية، وعلى خلفية مواقف ترامب التي أعطت إسرائيل كل شيء وجرّدت الفلسطينيين من أي ورقة تفاوض يمكنهم استعمالها، ما زال الرئيس جو بايدن متردّداً في إعلان موقف واضح من هذه القضية أو من مدى اهتمامه بها أو طريقة تعاطيه معها، إلّا أنّ هنالك مؤشرات عدة تشي بعدم وجود هذه القضية ضمن أولويات السياسة الخارجية للإدارة الأميركية الجديدة.

 

من هذه المؤشرات، أنّ بايدن، عندما زار وزارة الخارجية الأميركية في واشنطن في الرابع من شباط الفائت، حيث أعلن الخطوط العريضة لسياسته الخارجية، لم يأتِ على ذكر اسرائيل أو الفلسطينيين، بل اكتفى بالإشارة ـ بالنسبة الى الشرق الأوسط - الى ضرورة وضع حدّ للحرب في اليمن وإيقاف الدعم الأميركي للعمليات الهجومية في هذه الحرب، مؤكّداً استمرار الدعم للمملكة العربية السعودية في الدفاع عن سيادتها وسلامة أراضيها.


 

ربما تجارب بايدن السابقة مع القضية الفلسطينية وصعوبة معالجتها عندما كان نائباً للرئيس أوباما الذي انتقد في وضوح سياسة اسرائيل الإستيطانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وطريقة تعاطي نتنياهو مع إدارة أوباما في هذا الموضوع، حيث أعلن نتنياهو تدشين بناء مجمّع مؤلف من 1600 وحدة سكنية في الضفة الغربية المحتلة أثناء وجود نائب الرئيس بايدن في إسرائيل في العاشر من آذار2010، وربما أيضاً بسبب تقدّم بايدن في السن واحتمال عدم ترشحه لولاية ثانية بعد أربع سنوات من الآن، بحيث ان لديه الآن أموراً أكثر إلحاحاً ومعالجتها أقل صعوبة وتعقيداً من القضية الفلسطينية، ربما لهذه الأسباب قد يتجنّب بايدن الإنغماس في هذا الملف الذي لا تبدو نتائجه مشجعة.

 

إلّا أنّ عدم وضع القضية الفلسطينية في سلّم أولويات إدارة بايدن، لا يعني إطلاقاً ترك الأمور على ما أوصلها إليه ترامب وعدم القيام بأي خطوات في هذا الإطار. وإذا كان بايدن منشغلاً في أمور أكثر إلحاحاً له مثل العلاقات مع الصين وروسيا وأوروبا والملف النووي الإيراني، فإنّ معاونيه مثل وزير الخارجية أنطوني بلينكن ومساعديه الذين لديهم خبرة طويلة في العمل الديبلوماسي، سيتعاطون بهذا الملف، وفق التوجيهات العامة التي يرسمها.

 

من هذا المنطلق، هنالك قرارات اتخذها ترامب أثناء رئاسته، ستبقى على ما هي عليه بلا تغيير، بينما هنالك أمور أخرى لا بدّ للإدارة الجديدة من أن تعدّلها وفق إقتناعها ورغباتها، سواء في الأسلوب أو في الجوهر.


 
 

أهم القرارات التي لن يتمّ التراجع عنها، وفق ما أعلنه بلينكن أمام مجلس الشيوخ أثناء إدلائه بشهادته في جلسة تثبيته كوزير للخارجية، قرار الإعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وقرار نقل السفارة الأميركية إليها، كذلك قرارات تطبيع بعض الدول العربية مع إسرائيل، على أن تلحظ أي عمليات تطبيع جديدة التشجيع على اتخاذ خطوات من شأنها أن تشجع الوصول الى حلّ الدولتين.

 

أما الأمور التي سيتمّ تغييرها في المستقبل القريب، فهي أولاً، عزم الإدارة الأميركية الجديدة على إعادة فتح مكتب فلسطين في واشنطن، الذي كان أقفله ترامب، وهو بمثابة مكتب اتصال ديبلوماسي من دون أن يكون له صفة السفارة أو الحصانات الديبلوماسية، كما تنوي الإدارة إعادة تسديد حصتها في تمويل وكالة «الأونروا».

 

على صعيد آخر، ستعطي الإدارة مجدداً دوراً للمفاوض الفلسطيني، وقد عمدت في هذا الإطار الى تعيين الموظف الأميركي من أصل لبناني والمولود في بيروت هادي عمر نائباً لمساعد وزير الخارجية للشؤون الإسرائيلية-الفلسطينية في وزارة الخارجية، وقد بدأ عمر اتصالات مع الجانبين في سبيل السعي لبدء حوار بينهما، بعد انقطاع دام معظم ولاية ترامب.

 

جدير بالتوضيح، أنّ إدارة بايدن تؤمن بحل الدولتين ولا تعترف بضمّ اراضي الضفة الغربية الى إسرائيل. أما موضوع الجولان، فقد ترك بلينكن الموقف الأميركي تجاهه غامضاً، إذ قال إنّ الجولان مهم جداً لأمن إسرائيل، وانّ وجود الرئيس بشار الأسد في السلطة ووجود إيران في سوريا يشكّلان تهديداً كبيراً لإسرائيل، وفي ظلّ هذا الوضع فإنّ السيطرة على الجولان هي ذات أهمية حقيقية لأمن إسرائيل.

 

لا بدّ أيضاً من الإشارة هنا إلى صعوبة حصول أي تحرّك أميركي مهم في سياسة الإدارة الجديدة تجاه القضية الفلسطينية. إذ أنّ انتخابات تشريعية ستجري في إسرائيل بعد أقل من شهر، سيتحدّد بموجبها ما إذا كان نتنياهو سيبقى رئيساً للحكومة أم سيتولى المسؤولية أحد سواه. كما أنّ من المقرر أن تجري انتخابات تشريعية في السلطة الوطنية الفلسطينية في 22 أيار المقبل وانتخابات رئاسية في نهاية تموز. وعليه، فمن الطبيعي ان لا تُقدم الإدارة الأميركية على اتخاذ أي قرارات قد يكون لها انعكاسات على الأرض في المستقبل القريب.

 

ويمكن القول في الختام، إنّ من غير المتوقع ان ترى القضية الفلسطينية المزمنة حلاً جذرياً قريباً لها، وكل ما ستحاوله إدارة بايدن هو تجنّب تفاقم الأمور بين إسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية مع تشجيع الفريقين على الحفاظ على خطوط التواصل بينهما، إذ أنّ بايدن لن يصرف جهده على قضية عمرها أكثر من 70 عاماً فشل أسلافه في حلها، بل إنّه سيخصّص جهوده للسعي الى رأب الصدع في المجتمع الأميركي، وذلك أمر شديد الصعوبة في ظلّ الإنقسام الحاد السائد حالياً، ولمعالجة أوضاع الإقتصاد الوطني وجائحة كورونا، وكذلك لإعادة هيبة الولايات المتحدة واحترامها في العالم وعلاقاتها مع الصين وروسيا، بالإضافة الى ما يتطلبه الملف النووي الإيراني وملحقاته من جهد ووقت.

 

الأمر الوحيد الذي يمكن أن يحمل بايدن على التدخّل مباشرة وبقوة في المنطقة قد يكون وقوع حرب بين إسرائيل وإيران. إذ أنّ إسرائيل تسعى الى عرقلة عودة الولايات المتحدة الى الإتفاقية النووية مع إيران، أو بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، وهذه أمور، في حال حصولها، لا تستطيع الولايات المتحدة أن تبقى مكتوفة حيالها.