قال البطريرك بشارة الراعي كلمته ومشى على طريقة سلفه الراحل البطريرك صفير، الذي من أبرز أقواله «لقد قلنا ما قلناه»، فيما السؤال الأساس يتمحور حول ماذا بعد الوثيقة-البرنامج التي قدّمها الراعي؟ وما هي الخطوة التالية للبطريرك؟ وكيف سيردّ «حزب الله»؟

إنتزع البطريرك الراعي، على غرار سلفه البطريرك صفير، تفويضاً وطنياً وسياسياً وشعبياً ومعنوياً، بحمل مشروع سياسي متكامل يمثِّل النقيض للمشروع الذي يحمله «حزب الله». وقد شكّل التجمُّع الشعبي في بكركي مناسبة ليشرح فيها بإسهاب، الأسباب الموجبة التي دفعته إلى الدعوة لمؤتمر دولي، واضعاً العناوين العريضة لأي حلّ للأزمة اللبنانية الذي لا يمكن ان يتحقق، برأيه، سوى عن طريق الأمم المتحدة، بعد ان تعذّر تحقيقه محلياً، مع وصول لبنان إلى الإنهيار وحافة الإنفجار.

 

ويؤسس هذا الخطاب لمسارين مختلفين: المسار الأوّل يتعلّق بالبطريرك نفسه، الذي أصبح أمام تحدّي الدفع قدماً بمشروعه، فلم يعد بإمكانه التراجع إلى الوراء، إنما عليه البحث عن الوسائل والأساليب التي تُبقي هذا المشروع حياً، فهل سيكتفي مثلاً بالتذكير بعناوينه في عظات أيام الأحاد، واعتماد الضغط والتراكم الديبلوماسي لإنضاج ظروف انعقاد المؤتمر الدولي، أم سيذهب إلى حدّ تأسيس لقاء سياسي، ينتدب لترؤسه مطراناً كما فعل سلفه صفير؟


 
 

وليس من الواضح بعد، ما هي الخطوة التالية التي سيلجأ إليها، بعد الوثيقة التي قدّمها والرسائل التي أطلقها، وقد يكتفي، على الأرجح، بالعمل التراكمي في ثلاثة اتجاهات: الإتجاه السياسي، من خلال التأكيد على ضرورة انعقاد المؤتمر الدولي. والإتجاه الديبلوماسي، عن طريق السعي إلى تسريع انعقاد هذا المؤتمر وتوفير مقومات نجاحه الداخلية والخارجية. والاتجاه الشعبي، عبر حثّ الناس على مواصلة انتفاضتها وثورتها، ولا يبدو انّه سيكون في وارد ترؤس لقاء سياسي يعيد إحياء الفرز بين لقاءين ومشروعين، وعدا عن تعقيدات خطوة من هذا النوع في ظلّ وجود عشرات كي لا نقول مئات الجمعيات، إلّا انّ الظاهر لغاية اللحظة انّه يريد حثّ الناس من دون تجميعها تحت عباءته، وانّه يريد تشخيص واقع الأزمة من دون الاستفزاز، ويريد تعبيد الطريق نحو المؤتمر الدولي من دون قطع الجسور في الداخل.

 

وبانتظار معرفة الاتجاه الذي سيسلكه البطريرك، تبقى الأنظار شاخصة باتجاه الفريق الآخر وكيفية تعامله مع مواقفه التصاعدية، وتحديداً موقفه الأخير، وسيكون عمليا أمام مسارين: مسار استيعابي وآخر تخويني. فإذا قرّر استكمال المواجهة التي كان بدأها السيد حسن نصرالله بالردّ على دعوة الراعي للتدويل بالتهويل بالحرب، فيكون قد قرّر تسخين الوضع السياسي، من أجل توجيه رسالة إلى المجتمع الدولي فحواها انّ التدويل سيُقابل بالتسخين والتوتير.

 

وأما في حال قرّر «حزب الله» ان يلجأ إلى مسار استيعابي مع بكركي، فيعني بأنّه سيقوم بكل ما يلزم لتعطيل دعوته إلى مؤتمر دولي، من الانفتاح عليه، إلى الضغط على الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري ليتجاوزا خلافاتهما، ومنح الراعي رعاية المصالحة بينهما، بما يجعله معنياً ومنخرطاً بترتيب الأوضاع، ويبرِّد همّة مشروعه التدويلي، وذلك على رغم انّ وضع التأليف صعب للغاية في ظلّ الهوة السحيقة بين عون والحريري. إلّا انّ المنحى الذي سلكته الأمور مع بكركي قد يدفع الحزب إلى الانتقال إلى ممارسة الضغوط على رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف، لإخراج التأليف من عنق الزجاجة، في خطوة تدفع البطريرك إلى التراجع خطوة إلى الوراء، وتعيد إدخال باريس على الخط، فينتقل التركيز من التدويل إلى الحكومة.

 

فمن مصلحة «حزب الله» الاستراتيجية بعد مواقف البطريرك، والتي يرتكز فيها على أرض خصبة شعبياً بسبب الانهيار القائم، وجاهزة سياسياً على مستوى القوى المعارضة ولو كانت مشتتة، واحتضانها دولياً، يبقى متاحاً وسهلاً مع دور الفاتيكان، وبالتالي من مصلحة الحزب القصوى ان يحرف الأنظار من مكان إلى مكان آخر، والمكان الأنسب هو الحكومة لثلاثة أسباب أساسية:


 

 

السبب الأول دولي بامتياز، حيث انّ تأليف الحكومة شكّل مطلباً دولياً، والتأليف سيُقابل بترحيب دولي، واي مراجعة محلية أو حتى فاتيكانية محتملة مع المجتمع الدولي من أجل التدويل، ستُقابل بضرورة منح الحكومة فرصة لتبيان مدى قدرتها على تحقيق الإصلاحات لتلقّي المساعدات ووضع لبنان على سكة التعافي.

 

السبب الثاني شعبي بامتياز، حيث انّ التأليف سيولِّد صدمة إيجابية ويجعل الناس تمنح الحكومة فرصة، لاسيما إذا كانت مدعومة دولياً.

 

السبب الثالث يتعلق بالبطريرك، الذي مجرّد ان تتألف الحكومة لن يبقى على إصراره وضغطه لعقد مؤتمر دولي حول لبنان.

 

فلا يوجد ما ينقذ «حزب الله» ولو مرحلياً سوى الحكومة التي تحرف الأنظار عن التدويل، وتقود إلى تبريد الوضع السياسي ولو مؤقتاً، وتحوِّل النقاش من مواجهة بين مشروعين، إلى نقاش داخلي يتعلق بالإنقاذ. فلا مصلحة للحزب بتاتاً بالدخول في مواجهة شبيهة بمرحلة 8 و 14 آذار، لأنّه يقف على أرض ضعيفة محلياً وسياسياً وخارجياً، فيما تسويق التدويل في ظلّ هذه الظروف سيكون سهلاً، وبالتالي المخرج الوحيد يكون بإخراج النقاش من التدويل وإعادته إلى داخل مجلس الوزراء.

 

ومن هذا المنطلق لا يجب استبعاد ان يضع «حزب الله» في الأيام المقبلة كل ضغطه لتأليف الحكومة، من أجل قطع الطريق على دينامية مبادرة البطريرك، التي يمكن ان تكبر ككرة ثلج محلياً وخارجياً وتنتظر اللحظة المؤاتية لترجمتها على أرض الواقع.

 

وقد دخلت مبادرة الراعي في عملية سباق مع الوقت، بين من يسعى لأن يبقى صداها ضمن ساحة بكركي والجوار، وبين من يسعى لوضعها على طاولة عواصم القرار، وفي الحالتين أحرز البطريرك تقدّماً لمجرّد ان جعل الفريق الرافض للتدويل في موقع ردّ الفعل، وانتقلت بكركي إلى موقع الفعل بعنوان يكفي تبنّيه دولياً لإخراج لبنان من أزمته، وهي تتكئ على عنصر قوة أساسي وهو الفاتيكان وتأثيره الدولي، كما الضغط على طهران من باب المجتمع الدولي.

وقد وضع البطريرك لبنان من خلال مبادرته في موقع «win win»، لأنّه من خلال ربطه للنزاع مع المجتمع الدولي لم يعد ممكناً، بالحدّ الأدنى، حصول اي تسوية على حسابه، على غرار ما حصل في تسعينات القرن الماضي، فيما لا يجب استبعاد ان يتبنّى المجتمع الدولي، بالحدّ الأقصى، القضية اللبنانية بالضغط على إيران من أجل ان يسلِّم «حزب الله» سلاحه.


 
 

وبما انّ سياسة التسخين تأسيساً على تجربة القرار 1559 قادت إلى إخراج الجيش السوري من لبنان، فإنّ اعتماد السياسة نفسها سيقود إلى تسريع تدويل الأزمة اللبنانية لا العكس، ولذلك، سيلجأ «حزب الله» إلى الاستيعاب، وأولى خطواته الاستيعابية عدم الردّ على البطريرك والانفتاح عليه، وثاني خطواته الاستيعابية العملية الدفع باتجاه ولادة الحكومة، لنقل النقاش المحلي والدولي من إنجاح التدويل بقرار لبناني إلى إنجاح الحكومة بقرار دولي.