قد تكون روسيا أرادت ان تعلن بوضوح ولكل من يهمّه الامر، أنّ لديها الرغبة في الاضطلاع بجانب من الحركة الحاصلة على الساحة اللبنانية.

في السابق، كان المسؤولون الروس يردّدون بصراحة امام زوارهم اللبنانيين بأنّهم يحجمون عن اي دور لهم على الساحة اللبنانية، على رغم الاوراق المهمّة التي يمسكون بها، انطلاقاً من الساحة السورية، وذلك لأسباب عدة، اهمها، ادراكهم أنّ الهوى السياسي للبنانيين هو اميركي، مهما بلغت التضحيات التي يمكن ان تقدّمها روسيا في لبنان.

 

أضف الى ذلك، انّ الدور الذي حاولت روسيا ان تتولاه حول حلّ مشكلة النازحين السوريين في لبنان، اصطدم فوراً بتحفظات اميركية، ما ادّى الى موت المبادرة الروسية قبل ان تولد، على الرغم من زيارة رئيس الجمهورية ميشال عون لموسكو.


 
 

وفي الواقع، فإنّ روسيا التي كانت متحفظة يومها عن وصول عون الى رئاسة الجمهورية، والتي لا تظهر الود لرئيس «التيار الوطني الحر» والمرشح لرئاسة الجمهورية جبران باسيل، لا تتردّد في اظهار علاقتها الخاصة بالرئيس المكلّف تأليف الحكومة سعد الحريري.

 

لكن ثمة تطورات حصلت، جعلت واشنطن تفكر بتلزيم بعض جوانب السياسة اللبنانية للدب الروسي، الذي بات يمسك بمفاصل اساسية في سوريا ويدير لعبة التوازنات بمزيج من البراعة والقوة. فالكرملين يدرك جيداً أنّ للبنان تداخلات اشدّ تعقيداً من الساحة السورية، وأنّه في نهاية الأمر يُعتبر ساحة نفوذ اميركية بخلاف الساحة السورية، التي كان للاتحاد السوفياتي تاريخياً نفوذ فيها.

 

ومع تصاعد لعبة عضّ الاصابع في لبنان على وقع انهيار اقتصادي ومالي بات يهدّد استمرارية مؤسسات الدولة اللبنانية، خصوصاً بعد انفجار 4 آب المروع، وظهور مدى الترابط بين الفساد والاهمال وضعف الدولة، تحرّك الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في اتجاه لبنان، معلناً مبادرته لإنقاذ الوضع.

 

الزخم الواضح الذي رافق الإندفاعة الفرنسية سرعان ما خبا بسبب الاطماع الشخصية لأطراف الطبقة السياسية اللبنانية، وايضاً بسبب التداخل العميق بين المشاريع الاقليمية ونفوذها على الساحة اللبنانية. وبدا انّ هنالك من يريد إحباط المبادرة الفرنسية تمهيداً «لتهشيل» فرنسا، وإرغام ادارة الرئيس الأميركي جو بايدن على الدخول في مفاوضات وتسويات سريعة حول الساحة اللبنانية، وفق موازين القوى الحالية، وهو ما لا تريده واشنطن الاّ بعد انتهائها من مفاوضاتها مع ايران حول ملفات عدة، والتي تخطط لأن يحصل بدءاً من الربيع المقبل.

 

وامام هذا الواقع، ووسط المصاعب التي تمرّ بها المبادرة الفرنسية، ظهر توجّه لدى الادارة الاميركية، ويقضي «بتلزيم» روسيا لجزء من الملف السياسي اللبناني، وفق دفتر شروط واضح ومحدّد بين واشنطن وموسكو، وله مفاعيله خارج الحدود اللبنانية. وقيل انّ جس نبض اولي حصل بين ديبلوماسيين اميركيين وروس حول هذا الموضوع، وهو ما جعل المسؤولين الروس الكبار يبدون اهتمامهم العلني بالملف اللبناني للمرة الاولى منذ زمن بعيد. لا بل انّ المبعوث الخاص للرئيس الروسي الى الشرق الاوسط ميخائيل بوغدانوف، والذي اجرى اتصالات متعددة مع سياسيين لبنانيين بارزين، لم يعترض على الاعلان عن هذه الاتصالات عبر الاعلام، كما كان يحرص على ذلك سابقاً.


 
لكن هذا الدخول الروسي لا يزال في اطار «جسّ النبض»، او اعلام من يهمّه الامر أنّ موسكو مهتمة بالاضطلاع بدور ما على الساحة اللبنانية. وفي الواقع على موسكو انتظار تفاهمها مع واشنطن حول «دفتر الشروط» الذي سيوضَع، فيما ادارة بايدن تنتظر استنفاد المبادرة الفرنسية كل وقتها والمتوقع مع حلول شهر ايار المقبل. مع الإشارة الى انّ «التلزيم» الروسي في حال حصوله، لن يكون على حساب الدور الفرنسي بكامله، بل في اطار التعاون والتكامل معه في غالب الظن.

 

في هذا الوقت، يعمل الرئيس الفرنسي على تحضير ملف لبنان جيداً الى جانب ملفات اخرى اساسية، مثل المفاوضات حول النووي وايران وشؤون التسلح ومسائل اخرى. وذلك خلال زيارته المتوقعة الى الخليج.

 

وفي الواقع، فإنّ الرئيس الفرنسي الذي يقرّ فريقه بأنّه ارتكب بعض الاخطاء في مقاربته للملف اللبناني، يعرف ايضاً انّ ثمة حاجة الى دور اوروبي في ملفات المنطقة المفتوحة. فعدا انّ البنك المركزي الاوروبي قادر على اعادة وضع برنامج علمي وعملي لإعادة استنهاض مصرف لبنان المركزي، وهو ما لا قدرة لروسيا عليه، فإنّ باريس تعوّل على علاقتها الجديدة مع واشنطن من خلال ادارة بايدن، التي تملك صداقات عدة بين عدد من رجالاتها، اولهم وزير الخارجية انطوني بلينكن.

 

وفي تواصل حصل بين الديبلوماسيتين الفرنسية والروسية، طلب الفرنسيون من الروس ان يشرحوا جيداً للايرانيين أنّ الاولوية التي يضعها الرئيس الاميركي للملف الايراني لا تحظى بوقت مفتوح لا بل على العكس. ذلك انّ واشنطن تستعد لتركيز جهودها على الملف الصيني، وبالتالي فإنّ الحماسة الموجودة الآن لإنجاز تفاهم ثابت مع ايران قابلة للتبدل قريباً، ويجب الاستفادة منها خصوصاً وان ضغوط اللوبي اليهودي تكون في العادة ضعيفة في بداية ولاية كل رئيس اميركي، لكنها سرعان ما تعود لتصبح اشد وأقوى لاحقاً.

 

وقرأ الفرنسيون كما الاميركيون في صواريخ الحوثيين التي استهدفت مطار أبها جنوب غرب السعودية، رسالة صاروخية ايرانية مفادها: اكتفوا بالعودة الى الاتفاق النووي من دون ارفاق المفاوضات بملف الصواريخ البالستية. لكن ثمة مرونة بدأت تلمسها فرنسا انطلاقاً من لبنان، خصوصا في المواقف الاخيرة للأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله، الذي أعلن بوضوح معارضته الثلث المعطل، ولو انّه طرح في المقابل حكومة العشرين وزيراً، وهو ما لا تعارضه المبادرة الفرنسية. وكان الفريق الفرنسي المعاون لماكرون قد اجرى مراجعة ومحاسبة ذاتية لطريقة التعاطي الذي حصل مع الملف اللبناني، وانتج حتى الآن فشلاً في تحقيق الاختراق المطلوب، وهو خرج بالاستنتاجات التالية:


 
 

1- انّ زيارة الرئيس الفرنسي الاولى للبنان عقب انفجار الرابع من آب كانت ضرورية ومثمرة وناجحة وحققت الصدمة المطلوبة، ومنحت باريس القدرة على المبادرة، وذلك بخلاف الزيارة الثانية التي حصلت من دون اشباعها درساً.

 

2- كان من المفترض، ليس فقط الاكتفاء بالتواصل مع ادارة دونالد ترامب قبل القيام بالزيارة الرئاسية الثانية، بل ايضاً الدخول في التفاصيل العملية، خصوصاً وان هنالك مبادرة لماكرون. وهو ما ادّى الى خطوات غير منسقة، مرة من خلال العقوبات ومرة اخرى من خلال زيارات ديبلوماسيين اميركيين.

 

3- كان من المفترض ايضاً اجراء استكشاف وافٍ وعميق مع ايران قبل طرح المبادرة الفرنسية.

 

4- الاختلاف الواضح بين التوقيت الفرنسي والساعة اللبنانية.

 

5- لم يحمل ماكرون معه «العصا» المطلوبة الى جانب المبادرة التي طرحها، خصوصاً وأنّه وضع مهلة زمنية لولادة الحكومة. فانقضت المهلة وتلقت المبادرة الفرنسية ضربة في هيبتها.

 

6- استعجل ماكرون في تقديم الهدايا السياسية مجاناً ومن دون مقابل. كمثل لقائه بالنائب محمد رعد كممثل رسمي لـ»حزب الله»، والتنازل فوراً عن مطلب الانتخابات النيابية المبكرة.

 

ولكن، هل هذا يعني انّ فريق ماكرون سيعمل على تعويض اخطائه من خلال تحرّكه المستجد؟

 

الأكيد انّ زيارة ماكرون المجانية للبنان لن تحصل، في وقت يبدو انّ الرئيس الفرنسي يسعى الى تحصين مبادرته جيداً لتأمين زيارته الثالثة،  قبل دخول الروسي شريكاً، في إعادة تحصين مبادرته من خلال جولاته الخارجية. لكن الأهم هو انّ الوقت ليس مفتوحاً امامه، وأنّ المهلة الزمنية قد لا تتجاوز أيار المقبل، قبل دخول الروسي شريكاً.