من المفترض ان تكون المواجهة قائمة بين الرئيس المكلّف تشكيل الحكومة سعد الحريري والقيادات السياسية والحزبية مجتمعة. فليس من المنطقي ان تبقى محصورة بينه وبين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون و»التيار الوطني الحر». فقد ظهر جلياً، انّه لم يعد هناك غير الحريري ملتزماً المبادرة الفرنسية، وانّ الجميع ساهموا في نحرها، كل من جهة، ولا بدّ من ان «يلتزموها» او «يرجموها»، فلا خيار ثالثاً، وعليه ما الذي تفترضه هذه المعادلة؟!

 

عزّزت التطورات الأخيرة التي انتجتها المواقف السياسية والحزبية منذ مطلع السنة الجديدة، الإقتناع لدى فئات واسعة من المراقبين المحليين والاجانب، بأنّ الأزمة الحكومية بلغت مراحل حرجة جداً. فتشابك المواقف وتداخلها بطريقة سلبية زرعا المزيد من العِقَد امام الحريري، رغم الجهود المبذولة على اكثر من مستوى لترتيب اولويات الملف، بدءاً من اختيار الوزراء بالمواصفات التي عبّرت عنها المبادرة الفرنسية، والتمهيد لمرحلة ما بعد التأليف.

 

فقد بات ثابتاً لدى القاصي والداني، انّ موضوع تشكيل الحكومة بات «البوابة الإجبارية» المؤدية الى مسلسل الخطوات الأخرى المتكاملة التي رسمتها خريطة الطريق، الى التعافي السياسي والنقدي والمالي والإداري، واعادة اعمار ما هدّمه انفجار المرفأ، وتحاشي الوصول الى «الانهيار الكامل» الذي يهدّد المؤسسات الخدماتية والمالية والاقتصادية والدستورية. وهو ما يوجب بالدرجة الاولى استعادة الحدّ الأدنى من الثقة بوجهيها الداخلي والخارجي بالدولة وسلطاتها المترنحة.


 
 

فقد تجاوزت الأجواء المحيطة بعمل السلطات الأساسية والمؤسسات مختلف الخطوط الحمر، نتيجة ما اصابها من شلل سيطر على معظم المؤسسات الحيوية والخدماتية منها بنوع خاص، ليس فقط بسبب «الإغلاق العام» الذي فرضته مواجهة تردّدات جائحة كورونا، بل جراء صعوبة التفاهم والتوافق على ما هو مطلوب من إجراءات داخلية الى حدود استحالتها. فقد اعاق العجز المالي المخيف في خزينة الدولة وماليتها العامة، نتيجة انهيار سعر العملة الوطنية وتعدد اسعارها، تأمين ابسط مقومات الحياة اليومية والخدمات العامة للمواطنين وتأمين كلفة الدين العام وإدارة شؤون الدولة، الى درجة ارتفع فيها منسوب الشك بقدرة السلطة على ادارة شؤون الدولة ومجاراة حراك المجتمع الدولي الداعم للبنان، بعدما قبل اللبنانيون العودة اليه منذ ان قبل القادة السياسيون بما قالت المبادرة الفرنسية التي اطلقها الرئيس ايمانويل ماكرون في 2 ايلول الماضي، استدراجاً لدعم دولي واقليمي واسع للبنان.

 

ولذلك، فقد أجمع المراقبون المحليون والاجانب، على قراءة التطورات بنظرة جديدة محايدة وغير فئوية، وخصوصاً عندما انطلقت من فشل كل المبادرات الداخلية والخارجية لتشكيل «حكومة المهمّة» الموعودة بالمواصفات المحدّدة. فقد تجاوز الاستحقاق مؤقتاً مواقف البعض الرافض، على مضض، ما انتهت اليه الاستشارات النيابية الملزمة في الاسبوع الاخير من تشرين الاول الماضي بتكليف الحريري المهمّة وسط انقسام حاد بين رئاسة الجمهورية و»التيار الوطني الحر» وبقية الأطراف بمن فيهم «حلفاؤهما» و»حلفاء الحلفاء» الذين اجمعوا على تكليفه المهمّة دون الاخذ في الاعتبار تحذيرات عون من تلك الخطوة.

 

واستناداً الى هذه الملاحظات، يحرص المراقبون على تصويب بعض المفاهيم التي حكمت المرحلة الاخيرة، بتوسيع دائرة الإتهامات الى الاطراف التي اعاقت المبادرة، انطلاقاً من منظار السعي الى تنفيذها، إن ما زالت قائمة او ما تبقّى منها على الاقل. فهي التي تعثرت في اكثر من محطة كانت محدّدة بدقة متناهية. وان توغل هؤلاء في قراءة هذه المرحلة، لا بدّ من الإشارة الى بدايات خرقها على يد «الثنائي الشيعي»، الذي اصرّ على ابقاء حقيبة وزارة المال من حصته، وهو ما شكّل اول خرق لمبدأ المداورة التي كانت مطلوبة من اجل تشكيل فريق حكومي متجانس غير حزبي، يُنهي «الإمارات الوزارية الطائفية»، ويتبنّى بالإجماع المطلوب مختلف ما قالت به «خريطة الطريق» الفرنسية من اصلاحات.

 

ولما سقط مبدأ المداورة بسبب العجز في مواجهة «الثنائي الشيعي» وتحييده عن المواجهة عن قصد او غير قصد، تناسلت الأزمات وتوزعت بين اجراء المداورة في شكل محدود بين الحقائب السنّية والمسيحية، ودخلت المطالب المزمنة على الخط من جديد، بإصرار «التيار الوطني الحر» على حقيبة وزارة الطاقة، رغم حرص الفرنسيين على اخراجها من السباق للجم الهدر بالمليارات في قطاع الكهرباء والطاقة والسدود. ولم تقف المناكفات عند هذه الحدود، فتمدّدت تلقائياً كـ «أحجار الدومينو» في اتجاه حقائب وزارات الداخلية والدفاع والعدل التي «ضُمّت» الى لائحة «الحقائب السيادية» و»حُذفت» منها حقيبة وزارة الخارجية التي اعطاها الرئيس المكلّف للدروز، فتشعبت الخلافات وتعدّدت السيناريوهات التي لا يمكن ان تبصر النور لمجرد التناوب بين بعبدا و»بيت الوسط» على وضع اليد على الحقائب الأمنية والعدلية، تزامناً مع الكشف عن النية باستخدامها في التهديد والوعيد بالمحاسبة، وصولاً الى رعايتها للانتخابات النيابية المقبلة، ان صمدت الحكومة الى تلك المرحلة وأُقرّ مبدأ اجرائها من اليوم.


 
 

تزامناً، فقد نسي البعض الذي حصر وجوه الخلاف بين بعبدا و»التيار الوطني الحر» من جهة و»بيت الوسط» من جهة ثانية، انّ هناك اسباباً اخرى، ومنها: إصرار حركة «امل» على اختيار وزرائها واعلان «حزب الله» انّه لم يسمّهم بعد، ولن يفعل قبل تسوية الخلاف مع رئيس الجمهورية والتيار. وفعل مثله الامين العام لحزب الطاشناق، الذي اصرّ على تسمية الوزير الارمني الوحيد في التشكيلة من خارج حصة عون والتيار، وسرت العملية نفسها باعتراض درزي على حقيبة وزارة الخارجية، وتريث رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية في تحديد موقفه قبل معرفة من سمّى الحريري ليمثله في التشكيلة المنتظرة، وأحيا رئيس كتلة «ضمانة الجبل» الأمير طلال ارسلان ومعه الوزير السابق وئام وهاب مطلب رفع التشكيلة من 18 الى 20 وزيراً لمشاركة من يمثلهما فيها، هذا عدا عن اتهام عون و»التيار» للرئيس المكلّف بالإصرار على تسمية ثلث الوزراء المسيحيين من خارج حصتهما.

 

وبناءً على ما تقدّم، ومن خلال النظرة الواقعية الى تداخل المواقف في ما بينها، وانطلاقاً مما قالت به المواصفات الفرنسية لحكومة من الاختصاصيين الحياديين، يظهر جلياً انّ الخلاف السائد ليس محصوراً بين ثنائي بعبدا ـ التيار لصعوبة الفصل بينهما والحريري فحسب. ومن المفترض عندها الإعتراف بوجود خلافات مماثلة بين الجميع و»الثنائي الشيعي»، الذي فرض شروطه «المبكرة» على الجميع، وما بين الحريري وبقية الاطراف بلا استثناء، ان احتسبت مواقف «حزب الله» وبري وجنبلاط وفرنجية وبقرادونيان وارسلان، بما عبّرت عنه من رفض للمواصفات الفرنسية.

 

وختاماً، يفترض القول انّ الجميع «نحروا» المبادرة الفرنسية بأكثر من «خنجر»، كل من جهته وعلى طريقته، رغم تأييدهم «العلني والشامل» لها، وخصوصاً، بعد سحب بند الانتخابات المبكرة منها. وعليه، طرح سؤال وجيه: هل سيكون متاحاً ان يتراجع الجميع عن مطالبهم فـ «يلتزموها» او فلـ «يرجموها» الى الأبد، لتنطلق مسيرة التأليف من الصفر، ونقطة عالسطر.