إنّ ارتفاع منسوب الحركة الخارجية حول أزمة ولادة الحكومة اللبنانية يُنبئ بأنّ هناك إيجابيات بدأت تلوح في الأُفق، ولو أنه ما يزال من المبكر جداً الحديث عن اكتمال المعطيات المطلوبة للحديث عن اقتراب موعد التفاهم النهائي.

فلقد بات ثابتاً لدى جميع الاطراف في لبنان انّ ادارة جو بايدن لن تدخل مباشرة الى الملف اللبناني وانها تدعم المبادرة الفرنسية، وهو ما عَناه البيان الاميركي ـ الفرنسي المشترك حول لبنان، والأهم انّ فشل المبادرة الفرنسية لن يدفع بواشنطن الى التحرك في اتجاه لبنان، وأنّ البديل عندها سيكون دخول روسيا على خط الازمة اللبنانية بعد تفاهمات مع ادارة بايدن، وانّ هذا الدخول قد لا ينتظر اكثر من شهر أيار المقبل. وتردّد انّ «جَس نبض» أوّلي حصل بين واشنطن وموسكو حول هذا الامر، وانّ العاصمة الروسية كانت متجاوبة، خصوصاً انّ أوراق القوة التي تمسك بها من خلال حضورها على الساحة السورية تسمح لها بتأثيرٍ أقوى في مختلف الاطراف في لبنان. ولم يكن هذا هو المُعطى الوحيد الذي أدى الى تحريك المياه الراكدة، فالادارة الاميركية اندفعت في مشوارها التفاوضي في اتجاه ايران، وبَدت مستعجلة ومصممة على إنجاز شيء ما قبل حزيران المقبل موعد الانتخابات الرئاسية الايرانية، مع عدم رهانها على نتائج هذه الانتخابات، وبتعبير أوضح، عدم رهانها على التيار الاصلاحي، اذا لم يكن تفضيلها التفاهم مع المحافظين القادرين على حماية اتفاق بهذا الحجم.

 

وفي الوقت نفسه اعلن الرئيس الاميركي في خطابه في 4 شباط، من وزارة الخارجية الاميركية، إنهاء الدعم الاميركي للعمليات الهجومية السعودية في اليمن، ما يعني صدور القرار بإنهاء حرب اليمن، وهو ما يريح السعودية، الى جانب وَقف تصنيف الحوثيين على لوائح الارهاب.


 
 

في المقابل، تحرّكَ مرشد الثورة الايرانية في اتجاه روسيا، حيث أوفد رئيس مجلس النواب محمد باقر قاليباف، وهو صاحب الحظ الأوفر للفوز في الانتخابات الرئاسية، وحَمّله رسالة سرية الى الرئيس الروسي من المفترض انها تتعلق بسوريا. وعلى رغم اعتذار بوتين عن لقاء موفد خامنئي، إلّا ان الزيارة حملت طابعاً مهماً، اضافة الى تعبيرها عن تراجع ثقة خامنئي بالرئيس الايراني حسن روحاني.

 

كذلك، جاء كلام وزير الخارجية الاميركية انطوني بلينكن تجاه السعودية بارداً، مع تلميحات حول مقتل الصحافي جمال خاشقجي.

 

لكن في المقابل تبدو السعودية وكأنها تركّز على مسألتين: الاولى، إنهاء حرب اليمن التي استنزفت موازنتها وهددت أمنها. والثانية، إشراكها في المفاوضات حول الاتفاق النووي مع ايران كما كان قد وعد الرئيس الاميركي. وبالتالي، فإنّ السعودية أضحت أقل تشدداً في مقاربتها الاقليمية من جهة بسبب البرودة الاميركية، ومن جهة اخرى بسبب اقترابها من هدفَيها حول اليمن والمشاركة في المفاوضات النووية.

 

هذا المناخ الايجابي، إن من السعودية أو من ايران، انعكس مرونة على لبنان وجاءت عودة السفير السعودي الى لبنان بعد أشهر طويلة من الغياب بمثابة إشارة إيجابية مُعبّرة. كذلك، فإنّ الرئيس سعد الحريري، الذي كان يتوخّى من هذه الحكومة ان تشكل جسر إعادة تواصله مع السعودية، بَدا متفائلاً بعد زيارتيه الاخيرتين الى الامارات ومصر خصوصاً، فهو سمع أنّ ثمة مناخاً جديداً بدأ يظهر قد يسمح بحصول مرونة في الشروط، كمثل إزالة «الفيتو» السعودي حول توزير أسماء صديقة لـ»حزب الله»، ولكن بشرط ألّا تكون حزبية، وهو ما يجب ان يشكل معياراً لجميع القوى المشتركة في الحكومة. عندها، من الممكن ان تعيد السعودية فتح ابواب التعاون والمساهمة في إنقاذ لبنان اقتصادياً.

 

ومن المنطقي أن يكون الحريري قد لمسَ الاجواء نفسها في باريس، خصوصاً انّ الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون سيزور السعودية حيث سيكون الملف اللبناني حاضراً بقوة، إضافة الى ملف ايران ومشاركة السعودية في المفاوضات النووية. وتشمل جَولة الحريري الخارجية ايضاً تركيا والعراق، قبل ان يعود الى بيروت ليُلقي كلمة في ذكرى استشهاد الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط.


 
 

ومعه سُجّل تراجع طفيف في الاحتقان السائد، وبدأ البحث في الاخراج الذي سيُعتمد لحل العقبات الداخلية. فحكومة من 20 وزيراً لم تعد تشكّل عائقاً أساسياً، لكنّ التصوّرات تدور حول طريقة تأمين تركيبة لا يحظى اي طرف فيها بـ»الثلث المعطّل»، ولو تحت عناوين مختلفة. فعدا عن انّ الوزراء يجب ان يكونوا خارج اي اصطفاف حزبي، ذهب البعض الى اقتراح لائحة أسماء من مُحايدين يحظَون بموافقة باريس، مع الاشارة الى امتعاض فرنسي من بعض الاسماء التي طُرحت أخيراً، والأهم هو برنامج عمل هذه الحكومة، والذي من المفترض ان يكون محدداً وواضحاً.

 

فمثلاً، سيتم التفاهم مُسبقاً على ترك حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة يُكمل ولايته حتى النهاية، ذلك أنّ واشنطن وباريس بَدتا قلقتَين من بعض الاسماء المقترحة لخلافة رياض سلامة. فلقد اعتبرتا انها أسماء ليست على مستوى المهمة التي سيتولّاها المصرف المركزي مستقبلاً، وانها أقرب الى «تَنفيعة» شخصية أكثر منها لرعاية مشروع إنقاذي.

 

مع الاشارة الى وجود طرح بوضع آلية تعاون وثيق بين المصرف المركزي اللبناني والمصرف المركزي الاوروبي وفق صيغة مدروسة، تؤدي الى إعادة الثقة، ولو جزئيّاً، بالواقع المالي اللبناني.

 

وسيحصل ذلك ايضاً من خلال صيغة عمل داخل الحكومة حيث سيكون، اضافة الى رئيس الحكومة ووزير المال، دور مهمّ لوزير الاقتصاد الذي تنوي باريس تسمية إحدى الشخصيات القريبة منها لتولّي هذه الحقيبة، وبالتالي لا يعود هنا مغزى الثلث المعطّل مُجدياً لأنه كان المطلوب منه ان يتحكّم «التيار الوطني الحر» بالتعيينات، وبالتالي فإنّ التعيينات الكبيرة أو التي تُحدث انقلاباً أساسياً على مستوى البلد لا تعود واردة على مستوى برنامج عمل الحكومة المقبلة.

 

وفي مؤشّر اضافي الى تحرك المياه الراكدة، تَبرز النصيحة التي تلقّاها رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل من ديبلوماسي أميركي محسوب على الحزب الديموقراطي. فرئيس الجمهورية كان يريد تفاوضاً مع واشنطن حول الحكومة لطلب إزالة العقوبات عن باسيل، والنصيحة الاميركية كانت أنّ واشنطن لن تتدخل في لبنان فهي منشغلة في أزمات المنطقة، وانّ العقوبات على باسيل من المستحيل إزالتها بقرار سياسي، وانّ الطريق الأقصر لتحقيق ذلك يبقى في الذهاب الى معالجة هذا الملف بالطرق القانونية المعروفة وعبر مكتب محاماة يتولى الملف والاوراق الاتهامية الواردة فيه.


 
 

وقيل انّ باسيل اقتنع بأن لا إمكانية لإزالة العقوبات بالسياسة وخلال الاشهر الثلاثة المقبلة، كما رَدّد امام حلقته الضيّقة، وانه يتجه الى التعامل مع المسألة من الزاوية القانونية، وهذا يعني انّ الافق السياسي بدأ يتّضِح، ومعه تصبح حدود اللعبة الداخلية في لبنان أكثر وضوحاً للشروع في مفاوضات لإنجاز الترتيبات المطلوبة بُغية وضع الإخراج المطلوب لولادة حكومة طال انتظارها، وهو ما قد يحتاج بضعة اسابيع اضافية اذا سار كل شيء على ما يرام ومن دون أي مفاجآت.