تبدو الساحة في لبنان شبيهة ببركانٍ خامد، على فوهتِه يتحرَّك الأفرقاء والوسطاء، ويتفاوضون على الحصص والمكاسب ومراكز القوة. ولكن، في أي لحظة، قد تَخرُج ألسِنَة النار وتأخذ الجميع في طريقها، وكل شيء.

حتى اليوم، يلتزم الرئيس الأميركي جو بايدن جانب الصمت تجاه الملف اللبناني. لكن طاقمه الديبلوماسي لا يتردَّد في إيضاح الموقف، علناً وعبر الأقنية. وفي الخلاصة، لا تظهر ملامح تغيير في السياسة الأميركية تجاه لبنان.

في تعبير أكثر وضوحاً، تنظر واشنطن إلى لبنان من زاوية التجاذب مع إيران، ومن خلالها «أمن إسرائيل». وليس متوقعاً أن تعلن إدارة بايدن موقفاً أكثر تساهلاً مع النفوذ الإيراني على حدود إسرائيل الشمالية، في الجنوب اللبناني كما في الجولان.


 
 

لم يمضِ على وصول بايدن إلى الحكم سوى 3 أسابيع. وهي فترة قصيرة جداً لتحديد مواقف البيت الأبيض من مسائل تفصيلية، كالمسألة اللبنانية. لكن هذه الفترة شهدت تحضيرات مكثفة لتحديد النهج الجديد مع إيران. والأبرز هو إعادة تسليم الملف لروبرت مالي، الذي كان راعي المفاوضات من أجل الملف النووي عام 2015.

 

البعض سارع إلى الاستنتاج، أنّ مجرد العودة بالملف إلى الرجل نفسه يعني أيضاً العودة إلى النهج نفسه. لكن المطلعين في واشنطن يجزمون أنّ الموقف الأميركي المُعلن في عهد ترامب سيبقى أساساً لأي مفاوضات بين الجانبين، أي وقف إيران لعمليات التخصيب. وبعد ذلك، يصبح التفاوض وارداً.

 

ولكن، وفق هؤلاء، لا يريد بايدن أن يكون أوباما آخر في التعاطي مع إيران، وإن كان نائباً له خلال إبرام الاتفاق. وهو سيتمسك بشروط صارمة لضمان عدم امتلاك إيران صواريخ ذات رؤوس نووية، وكذلك منعها من بسط نفوذها غرباً.

فبايدن، خلافاً لأوباما وترامب، يأتي من تجربة طويلة وعميقة من العمل السياسي، بينها نحو 37 عاماً في ترؤس أو عضوية لجنة الخارجية في مجلس الشيوخ. وخلالها، ومن خلال موقعه في نيابة الرئاسة، شارك في إعداد مشاريع وأفكار عدّة للحل في الشرق الأوسط. وهو متعمّق خصوصاً في الملفين الإيراني والعراقي.

 

في الموازاة، يعتقد المطلعون، أنّ بايدن سيقيم معادلة جديدة للعلاقات مع حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة العربية والشرق الأوسط عموماً، ولا سيما منهم المجموعة الخليجية. وهذا ما ظهر في الاتجاه السريع إلى إطفاء النار في اليمن.

إذاً، يبدو بايدن متجّهاً إلى تحديد مقارباته للملفات الشرق أوسطية. لكن ذلك لا يبدأ بالجزئيات أو بالتفاصيل، بل بالملفات الأساسية. وبعد ذلك يصبح سهلاً تصوُّر التعاطي في التفاصيل.

 

ولذلك، لم تستعجل إدارة بايدن الدخول في الملف اللبناني مباشرة، وتبدو اليوم كأنّها في موقع المتفرّج. ولكنها في الواقع تدير اللعبة بـ«الريموت كونترول»، وتبحث عن الإمساك بخيوط اللعبة من أساسها، أي من الملف الإيراني. وهي تترك للوسطاء، بدءاً بفرنسا، أن «يجربوا حظّهم»، لعلّهم ينجحون.


 

عملياً، لا يفعل بايدن مع الوسيط الفرنسي سوى ما فعله ترامب: «نمنحكم الوكالة. إذهبوا وحاولوا. ولكن في النهاية سنقول رأينا بالتسوية سلباً أو إيجاباً، أي تمرّ أو لا تمرّ».


 
 

في انطلاق المبادرة الفرنسية، كان ماكرون قريباً نسبياً من ترامب. ولكن، عندما بدأ يتعثر، صار يقبل بـ«الموجود»، فقطع ترامب عليه الطريق. وثمة مَن يعتقد أنّ بايدن أعاد فتحها له، مع وعدٍ منه بأن يبقى ضمن دائرة الشروط الأميركية، لا الإيرانية، في الوساطة.

 

ويقول سياسي وثيق الصلة بالجانبين الفرنسي والأميركي: ليس هناك نفور أميركي تجاه «حزب الله»، في المطلق، كحزب لبناني، بل تجاه ما يمثله من نفوذ عسكري وأمني لإيران. فإذا تعهّد «الحزب» بالتخلّي عن هذه المهمّة، يصبح سهلاً أن يتعاطى معه الأميركيون في لبنان.

 

وفي رأي هذا السياسي، أنّ ماكرون يحاول التحرّك ضمن هذا المفهوم، أي إقناع «حزب الله» بفكّ ارتباطه القوي بإيران وجعل قراره لبنانياً داخلياً. وهذا ما يسهّل إنجاح المبادرة الفرنسية، بدءاً بتشكيل حكومة جديدة تحظى بالرضا عربياً ودولياً، ولو كان يتمثّل فيها «الحزب» بشكل «ناعم»، كما القوى الأخرى.

 

ووفق المعلومات، يحاول الفرنسيون اليوم استنفار الدعم العربي تحت هذا السقف. وإذا يبدو متعذراً إقناع المملكة العربية السعودية بهذا النموذج من الحل، بسبب عدم اطمئنانها إلى نتائجه، فعلى الأرجح أنّ واشنطن أيضاً لن تقتنع به. وهي لا تثق في أنّ «الحزب» يمكن أن يفكّ ارتباطه ولو جزئياً عن طهران.

 

وعلى الأرجح، الإمارات العربية المتحدة وقطر وحتى مصر، هي أيضاً لن تغامر أيضاً بإحراق المراكب مع الأميركيين من أجل دعم التسوية الفرنسية في لبنان. ومعلوم أنّ الإمارات وقطر أقفلتا «حنفيات» الدعم في وجه حكومة الحريري باكراً، قبل اندلاع انتفاضة 17 تشرين الأول 2019.

 

بل إنّ فرنسا- ماكرون نفسها ما زالت تشترط صراحة بتنفيذ الإصلاحات قبل تقديم أي مساعدة للبنان. والُبعد السياسي للإصلاحات يستهدف «حزب الله» في شكل أساسي، ثم المنظومة السياسية التي يدعمها وتدعمه، والتي تضمّ خصومه وحلفاءه على حدّ سواء.

 

هل سينجح ماكرون في استمالة بايدن ليحصل على تغطية لمبادرته، في البلد الشرق أوسطي الوحيد الذي ما زال يحفظ مكاناً مميزاً لها ولمصالحها؟


 
 

ثمة من يخشى أن يصطدم ماكرون ببايدن كما اصطدم بترامب. فالرئيس الفرنسي «محروق» لإنجاز تسوية في لبنان، لكن بايدن ما زال في الأيام الأولى من ولايته. ولذلك هو ليس مستعجلاً، وأمامه وقت طويل للتفاوض مع إيران، والتشاور وعقد الصفقات مع الحلفاء في المجموعة العربية وإسرائيل.

 

في المقابل، ليس مضموناً أنّ طهران ستقدِّم تنازلات. وفي أي حال، هي لن تتنازل للفرنسيين لأنّهم عاجزون عن تسديد الثمن لها. وفي ظلّ هذا «الكباش»، قد يواصل لبنان إنزلاقه نحو مزيد من الاهتراء لشهور إضافية.