لو عاد اليوم الأمير الراحل شكيب إرسلان من عليائه لأخبرناه: ضاعت جنائن طرابلس وخربت منشآتها ومستشفياتها، وزالت بساتين الزيتون والليمون والبرتقال، خربّت دولة لبنان الكبير قصورها التاريخية، وعطّلت مرفأها، ورمتها في غياهب الفقر والبطالة والجوع والحرمان والإذلال، خرّبت دولة لبنان الكبير البلد.
 

كتب المفكر الإسلامي-العروبي شكيب إرسلان أوائل القرن العشرين، وهو يجمع التبرعات للثّوار الليبيّين في وجه الغزو الإيطالي لليبيا عام ١٩١٢ يقول: إن لم نتمكن من الحفاظ على رمال الصحراء في طرابلس الغرب، لن نتمكن من الحفاظ على جنائن طرابلس الشام، كانت مدينة طرابلس الشام في ذلك الزمن تنعم بحضنها العروبي-السوري في ظلّ الأمبراطورية العثمانية، في حين كانت خشية إرسلان واضحة على طرابلس الغرب، سنواتٍ قليلة وزالت الأمبراطورية العثمانية من الوجود بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وحلّ محلّها الإنتداب الفرنسي-الإنكليزي على المنطقة العربية، وكان إنشاء دولة لبنان الكبير على يد الإنتداب الفرنسي، وهي خطوة جريئة إذ قامت بتكبير متصرفية جبل لبنان، وضمّ أربعة أقضية لها: الجنوب والبقاع والشمال وولايتي صيدا وبيروت.

 

 

 إلاّ أنّ هذا الأمر لم يتمّ بيُسرٍ وترحيب، فقد قاومت المدن الساحلية ذات الأغلبية السُّنية قيام دولة لبنان الكبير، كما شارك الجنوب والبقاع ومدنٌ ساحلية في الإنتفاضة المسلحة ضد الإنتداب الفرنسي في سوريا ولبنان، وكان لمدينة طرابلس نصيباً وافراً من الخسائر التي تكبّدتها جراء التحاقها بدولة لبنان الكبير.

 

إقرأ أيضا : الطبقة السياسية الفاسدة وطرابلس..بعد قطع الأرزاق هدر الدماء.

 

 

قام لبنان الكبير بمؤسساته الدستورية والإدارية والقضائية والدبلوماسية، وطوت مدينة طرابلس صفحة العروبة والوحدة و"الإسلامويّة"، وارتضت العيش في أحضان لبنان الكبير، عن ماذا تمخّض الأمر في الذكرى المئوية لولادة لبنان الكبير، رضينا بالهمّ والهمّ ما رضي فينا، كما يقول المثل الشعبي، يُعدّد الزميل الدكتور قصي الحسين في مقالةٍ له بعد أحداث طرابلس الأليمة خلال الأسبوع الماضي، الخسائر الجسيمة والصافية التي لحقت بمدينة طرابلس جرّاء انضوائها في دولة لبنان الكبير، الدولة المتهالكة التي عاملتها بالجحود والنكران، وزرعت في أنحائها الفقر والجدب والبِطالة والحرمان والقلاقل من كلّ نوع، ومن كلّ حدبٍ وصوب، حتى استحقّت لقب أفقر مدينة متوسطية على ساحل البحر الأبيض المتوسط، فهي كما يقول "الحسين" خسرت تواصلها الشمالي الذي اعتادت عليه، طيلة عهود ازدهارها، مع طرطوس واللاذقية وحمص وحماه وإدلب وجبلة وأرواد وأنطاكيا، وحتى دمشق وحلب، وجزر البحر الأبيض المتوسط حتى بلاد الأناضول، وما لبثت أن خسرت كل رصيدها: سكك الحديد والتجارة بالأخشاب، توقف أسطولها من قطارٍ وترام، وصارت محطتها العظيمة مثل أعمدة بعلبك، تاريخ بلا استثمار، خسرت طرابلس معامل السكر والشمندر، خسرت طرابلس معامل النسيج والحرير والصوف والكتان، خسرت طرابلس معامل التوضيب والحفظ، ومعامل التغذية، خسرت أهراءاتها حين شُيّدت إهراءات بيروت( اليوم كلنا في الهوا سوا)، خسرت طرابلس أسواقها: سوق البازركان، القمح، الصاغة   سوق العطارين، سوق النّحاسين، سوق السمك، سوق الدباغة، كما خسرت طرابلس مدارسها: الفرير والراهبات والطّليان والأميركان.

 

 

خسرت طرابلس مكتباتها العامة: الفرنسية والأنكليزية والأميركية والألمانية، هُدم تراثها المعماري: الفنادق والأبراج والأسواق الحجرية، وفوق ذلك كان مصابها العظيم الذي ضربها بعنف، عندما فقدت طرابلس تنوّعها الذي عرفتهُ في كلّ حقباتها: غادرها المسيحيون والأرمن والأشوريون والموسويّون والعلويّون، وأخيراً خسرت طرابلس أهلها، يقول الدكتور الحسين.

 

 

لو عاد اليوم الأمير الراحل شكيب إرسلان من عليائه لأخبرناه: ضاعت جنائن طرابلس وخربت منشآتها ومستشفياتها، وزالت بساتين الزيتون والليمون والبرتقال، خربّت دولة لبنان الكبير قصورها التاريخية، وعطّلت مرفأها، ورمتها في غياهب الفقر والبطالة والجوع والحرمان والإذلال، خرّبت دولة لبنان الكبير البلد ( وطرابلس في طليعتها) بفضل اللُّحمة "الوطنية" القائمة على التكاذب "الطوائفي"، خرب البلد على يد طبقة سياسية فاسدة، لم تُحسن الحفاظ على مبنى بلدية طرابلس الأثري، هذا الذي كان حتى الأمس سالماً من ظلم الزمان، وقبل ذلك وبعده من ظلم الحُكّام.