هل هناك لغز أو أسباب منطقية في ملف الديون الخارجية (اليوروبوند)، حالت حتى الآن دون تحرُّك الدائنين الأجانب، لمطالبة لبنان بمليارات الدولارات العالقة في محافظهم الاستثمارية؟

11 شهراً مرت على اعلان حكومة حسان دياب المستقيلة التوقّف عن دفع الديون السيادية بالدولار، والتي تبلغ قيمتها حوالى 31 مليار دولار موزّعة بين صناديق استثمار أجنبية ومصارف لبنانية ومصرف لبنان، بالإضافة الى نسبة قليلة بين يدي أفراد أجانب أو لبنانيين. ومن المعروف انّ عملية التوقّف عن دفع هذه السندات، أدّت الى خفض تصنيف البلد الى مستوى التعثّر، في حين انّ الامر ليس مماثلاً بالنسبة الى سندات الدين بالليرة، والتي لم تعلن الدولة حتى اليوم التوقّف عن دفعها. وقد بادرت المصارف اللبنانية التي تحمل القسم الأكبر من هذه السندات (بالليرة)، الى الطلب من الدولة عدم اتخاذ أي خطوة في اتجاه اعلان وقف الدفع، وتعهّدت المصارف بتقديم التسهيلات اللازمة لجهة تجميد الفوائد، وتأجيل الاستحقاقات لتسهيل المهمة على الدولة.

 

هذا الواقع يعني انّ الكارثة المالية التي حلّت بالبلد، جزءٌ أساسي منها يرتبط بالتوقف عن دفع اليوروبوند. وعندما قرّرت حكومة دياب وقف الدفع، كانت التقديرات تشير الى حوالى 7 مليارات دولار فقط يحملها مستثمرون أجانب، في حين انّ بقية المبلغ كانت في حوزة المصارف التي كان يمكن الاتفاق معها على تسوية تجنّب البلد اعلان الافلاس، مع ما يستتبعه من تداعيات يعرفها أصحاب الخبرة، بناء على تجارب كل دول العالم التي واجهت وضعاً مماثلاً. والمفارقة هنا، انّ سياسة الدعم التي اتُبعت بعد آذار 2020، كلّفت حتى الآن، وفي خلال الـ11 شهراً الماضية، حوالى 7 مليارات دولار، الذي من أجله قرّرت الحكومة اعلان الافلاس!


 
 

اليوم، ليس أكيداً ما هو حجم سندات اليوروبوند التي أصبحت في حوزة الأجانب، خصوصاً انّ البعض يؤكّد انّ المبلغ ارتفع بسبب عمليات شراء اضافية قامت بها المؤسسات التي تحمل السندات بأسعار متهاودة، بهدف خفض كلفة السندات، بحيث ينخفض المعدل الوسطي في المحافظ الاستثمارية من 78 سنتاً الى 50. وهو سعر يعتبر المستثمرون انّه يسهل تحصيله مع ارباح عندما يحين موعد التسوية.

 

لكن المفارقة التي بدأت تثير تساؤلات، ترتبط بسياسة الجمود التي يتّبعها المستثمرون الاجانب حَمَلة اليوروبوند، وهم غائبون عن السمع، لا يدلون بتصريح، ولا يقومون بأي تحرّك. فهل هناك ما يُقلق في هذا الموقف؟

 

جرت العادة في مواقف مماثلة أن تكون الحكومات هي المستعجلة على فتح قنوات التفاوض مع الدائنين، بهدف الانتهاء من المشكلة للتمكّن من بدء خطة الخروج من المأزق، والعودة الى الاسواق العالمية. فما هي الاسباب والمعطيات التي تدفع حَمَلة اليوروبوند الأجانب الى هذه البرودة في التعاطي مع الملف؟

 

التفسيرات التي يمكن أن توضح خلفيات هذا الوضع، ترتبط بالاحتمالات التالية:

اولاً- جائحة «كوفيد- 19» التي جمّدت الكثير من التحركات، وأوجدت أزمات قد تكون أكبر وأخطر من ملف متابعة تحصيل دين من دولة مُفلسة. ومن المعروف انّ الجائحة تؤدّي الى تمديد المِهَل على كل الأصعدة، وبالتالي، يمكن اعتبار موقف الصناديق المستثمرة في الدين السيادي اللبناني بمثابة تمديد قسري للمِهَل، ليس إلّا.

 

ثانياً - حال التخبّط والانهيار في البلد، وعدم وجود حكومة لتحصيل الحقوق، قد يدفع المستثمرين الى التريث، بانتظار ولادة حكومة يمكن التفاوض معها.

 

ثالثاً - عدم توفّر موجودات واضحة للدولة في الخارج (اذا استثنينا الذهب) تسمح بوضع اليد عليها، قد يندرج في لائحة الأسباب التي تعيق أي تحرّك للدائنين. أما استثناء الذهب، والذي توجد منه كمية في الخارج كافية لتأمين 6 أو 7 مليارات دولار، فيعود الى انّ المعدن الاصفر لا يزال تحت وصاية المصرف المركزي الذي يتمتّع بحصانة لا تسمح للدائنين بمصادرة أي من موجوداته لتعويض دين على الدولة.


 
 

رابعاً - انتظار بدء تفاوض لبنان مع صندوق النقد الدولي لتبيان خطوط الخطة الإنقاذية، والمبالغ التي ستُؤمّن للتمويل، لأنّها قد تشكّل مرتكزاً يتمّ الإستناد اليه لتحديد السقف الذي يمكن بلوغه في تعويضات الدين.

 

خامساً - قد يكون من مصلحة الدائنين تمرير الوقت، طالما انّ الدولة توقفت عن دفع الفوائد على اليوروبوند، وبالتالي سيكون من حق حاملي السندات المطالبة بتعويضات اضافية بدلاً من الفوائد غير المُسدّدة.

 

سادساً - ليس مستبعداً أن يستفيد حاملو السندات من مرور الوقت، وتراجع قدرة حاملي السندات المحليين على الصمود، بما قد يضطرهم الى بيع المزيد من هذه السندات بأسعار زهيدة جداً، تسمح بالاعتقاد انّ امكانات الربح تصبح أكبر عندما يحين موعد التسوية مع الجهة المُصدِّرة لهذه السندات.

 

كل هذه الاحتمالات واردة، بعضها أقرب الى المنطق من بعضها الآخر، وقد تجتمع عوامل عدة لتعطي النتيجة نفسها. لكن الواضح انّ الدولة اللبنانية لا تشعر بالضغط، وانّ الدائنين ينامون على دينهم المتعثّر، حتى أنّهم لم ينجزوا بعد الخطوات الاولى المتمثلة بتكوين مجموعات عمل قانونية تمثل الدائنين، ليكونوا جاهزين للتفاوض أو التوجّه الى القضاء عند الحاجة. وليس معروفاً بعد، اذا كان يمكن الاستنتاج انّ البلد محظوظ وانّ موقف الدائنين يُريحه ولو الى حين، ام انّ ما يُحضّر في هذا الملف أخطر من ذلك، وستتضح خطوطه بعد حين.