يملأ غبار الحملات السياسية فجوة الوقت الضائع، والفراغ الداخلي المموّه بصراخ عبثي، في انتظار تطور ما، يدفع الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري الى التفاهم القسري او الى الافتراق الرسمي عبر اعتذار الرئيس المكلف.

حتى ذلك الحين، لا يوحي الردح السياسي ونشر الغسيل على السطوح بأنّ هناك انفراجاً قريباً في الازمة الحكومية التي تلتهم الشهر تلو الآخر، الا اذا حصلت مفاجآت من خارج السياق السياسي الراهن.

 

وبعدما انتهى مفعول ذريعة انتظار نتائج الانتخابات الأميركية ثم انتظار تسلّم جو بايدن مقاليد السلطة رسمياً، إنتقل هواة ربط مصير الحكومة باتجاهات الرياح الخارجية الى ترقب انعكاسات وصول بايدن على مستقبل العلاقة بين واشنطن وطهران، وتحديداً لناحية احتمال تجدد التفاوض حول الاتفاق النووي مع إيران، حتى يبنى على الشيء مقتضاه إقليمياً، وبالتالي محلياً.


 
 

لكن، هناك في المقابل من يصرّ على أنّ جوهر المأزق الحالي هو داخلي بالدرجة الأولى، ويرتبط بالنزاع بين الرئيس ميشال عون والنائب جبران باسيل من جهة والرئيس سعد الحريري من جهة أخرى على توازنات الحكومة الجديدة ومن سيملك الارجحية فيها، لحماية مصالحه في المرحلة المقبلة.

 

ويبدو انّ لدى عون قناعة، كما توضح الاوساط القريبة منه، بأنّ التأخير في ولادة الحكومة يعود إلى كون الحريري «متردد، وعاجز، وحائر، وخائف»، للاعتبارات الآتية:

- الموقف السعودي: تلفت اوساط القصر الجمهوري الى انه اذا كان رحيل دونالد ترامب قد أراحَ الحريري نسبيّاً من هاجس العقوبات الأميركية، فهو لا يزال يأخذ في الحسبان الموقف السعودي المُتشدّد في رفض التعاون مع اي حكومة تضم تمثيلاً ولو غير مباشر لـ»حزب الله»، «وقد أتى التصريح الاخير لوزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان حول ضرورة نبذ الحزب ليزيد الأمور صعوبة بالنسبة إلى الحريري الذي يخشى من رد فعل المملكة وولي العهد الامير محمد بن سلمان اذا ضَمّ «حزب الله»، مباشرة او مواربة، الى الحكومة الجديدة».

 

- الثنائي الشيعي: تعتبر أوساط بعبدا انّ الحريري بات أسير الالتزام الذي قطعه لهذا الثنائي بإعطائه وزارة المالية، وهو الأمر الذي لا يزال يعارضه عون على قاعدة رفض الاستنسابية في المداورة، إذ لا يجوز في رأيه الابقاء على حقيبة محددة في حوزة طائفة وانتزاع حقائب من طوائف أخرى، «وبالتالي ما يصحّ على مكوّن يجب أن يسري على المكونات الأخرى، والّا يبقى كل شيء على حاله».

 

- الطرف المسيحي:


ليس مقبولاً، وفق أوساط بعبدا، أن يسعى الحريري الى تشكيل حكومة تفتقر عملياً الى أيّ غطاء مسيحي وازِن، مُتسائلة عن مَكمن الحكمة في أن يُعادي باسيل ويرفض اي تواصل معه كرئيس لأكبر تكتل نيابي مسيحي، في وقت يواجه أيضاً مشكلة مع حزبي «القوات اللبنانية» و»الكتائب» اللذين يعارضانه ولن يشاركا في حكومته، «ما يضرب مبدأ تمثيل الطوائف بشكل عادل، بحسب الدستور».

 

- التدقيق الجنائي ومحاسبة الفاسدين:

بعيداً من المواقف الاستهلاكية، لا يُبدي الحريري حماسة للتدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، تبعاً لاستنتاج أوساط القصر الجمهوري، «وهو يمانع اي محاسبة او إزاحة لرياض سلامة، ويحمل شعار «عفا الله عمّا مضى» لِتجنّب فتح ملفات الفساد خوفاً على بعض القريبين منه وتفادياً لاستفزاز حلفائه، في حين انّ التدقيق يشكّل مفتاح صندوق النقد الدولي وأحد أسس المبادرة الفرنسية».

 

ويجزم زوّار عون بأنه لا يهدف الى اقتطاع حصة وزارية لشخصه او الحصول على بضعة وزراء مسيحيين يَأتمرون بأمره، كما يروّج خصومه، «بل هو يعتبر نفسه معنيّاً بكل وزير، ويريد ان يكون شريكاً في اختيار كل اسم، الدرزي والشيعي والسني قبل المسيحي، إنطلاقاً من انّ كل الحكومة تهّمه وكلها محسوبة عليه وله كرئيس للجمهورية».


 
 

وتفيد المعلومات انّ عون، وضمن مقاربته للتوازنات السياسية والعدالة في توزيع الحقائب، ليس في وارد أن يقبل بإعطاء الحريري «الداخلية» و»العدل» معاً، لأنّ مُؤدّى ذلك، وفق تقديراته، تسليم رئيس تيار «المستقبل» مفاصل الأمن والبلديات والمحافظات والمواقع القضائية والضابطة العدلية، مع ما يعنيه هذا الأمر من طَي لملفات الفساد في الأدراج وسقوط لمبدأ المحاسبة.

 

وعلى ذمّة الرواة، حاول الحريري على طريقته إقناع عون بالموافقة على أن تكون «الداخلية» و»العدل» من حصته، وخاطبه في أحد الاجتماعات بما معناه: فلتكن لكم في المقابل «الطاقة» و»الاتصالات» اللتين ستحصلان على دعم فرنسي، وهكذا يمكن تعويم جبران الذي سيستطيع عندها تحقيق وعده بإعادة التيار الكهربائي الى طبيعته. فأجابه عون: لا أريد تعويم جبران، وعرضك مرفوض..

 

واستناداً الى معايير القصر، لا يزال عون يرفض كذلك تثبيت وزارة المالية للشيعة كما فعل الحريري، «لأنه من غير المناسب ان يكون هناك استثناء يخدم فئة واحدة، بينما يُراد خلط أوراق الوزارات الأخرى، فإمّا مداورة شاملة او لا مداورة»، تبعاً لأداة القياس المعتمدة في بعبدا.

 

ويشير مصدر وثيق الصلة بعون الى انّ موقف الحريري في هذا المجال، يدفع الى طرح السؤال الآتي: من هو الخاضع للثنائي الشيعي او الخائف منه: ميشال عون الذي يعارض إبقاء «المالية» مع هذا الفريق ام الحريري الذي وافق على ذلك تحت شعار «لمرة واحدة»؟

 

ويلفت القريبون من كواليس بعبدا الى انّ عون يطمح الى تركيبة حكومية مُنتِجة تستطيع التصدي للتحديات ومعالجتها، وتصنع فارقاً او قيمة مضافة بالمقارنة مع الحكومة المستقيلة، «الّا اذا كان المطلوب فقط استبدال الرئيس حسان دياب بالحريري، وحينها لا مبرر لكل هذه الشَوشرة لأنّ دياب يظل أفضل، كونه اكثر نشاطاً وأقل ارتباطاً بالمحاور».