كشف «حزب الله» لمرتين متتاليتين، عن طريق مصادره التي لم يتمّ نفيها، عن مساعٍ يقودها او ينوي قيادتها على خط تشكيل الحكومة، فما خلفية استبداله الديبلوماسية السرّية، التي يتبعها غالباً، بالعلنية؟

لا حاجة لإعادة التأكيد على أهمية تشكيل الحكومة بالنسبة إلى «حزب الله»، من أجل استمرار الستاتيكو الحالي إلى حين بروز معالم التسوية الأميركية-الإيرانية، حيث كل هدفه ان يبقى الوضع تحت السيطرة مالياً واقتصادياً ومعيشياً واجتماعياً من جهة، وسياسياً من جهة أخرى، ولا يناسبه إطلاقاً ان تتشكّل جبهة سياسية في مواجهته، ولا ان يستعر الوضع السياسي مجدداً باستقالات من مجلس النواب ومواجهات وانقسامات، ولا ان تتشكّل حكومة غير قادرة بالحدّ الأدنى على فرملة الانهيار المالي، وهذا ما يفسِّر تمسّكه بالرئيس المكلّف سعد الحريري وخلافه مع فريق العهد الذي يريد استبعاده، واضعاً هذا الإستبعاد في الإطار الشخصي، فيما المصلحة السياسية تستدعي التعاون مع الحريري لاعتبارات تبدأ من تمثيله السنّي، ولا تنتهي بقدرته على الشبك مع دول العالم، وما بينهما لا يُتهّم الحزب محلياً وخارجياً بأنّه وراء اختيار رئيس الحكومة.

 

و»حزب الله» أكثر من يعرف بأنّ لا عقدة خارجية تحول دون التأليف، ومن الواضح انّه كان ينتظر قبل إطلاق مسعاه ثلاث محطات أساسية: المحطة الأولى أميركية مع دخول الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض باعتبارها مرحلة جديدة، وتقطع الطريق أمام من يتذرع بعقوبات محتملة مع الإدارة السابقة، والمحطة الثانية وصول مسار التأليف إلى الحائط المسدود، حيث لم يعد من المجدي الرهان على مساعي الرئيسين واتفاقهما المستبعد من دون وساطة، والمحطة الثالثة فشل الوساطات التي سعت باتجاه التقريب بين بعبدا وبيت الوسط، فتأتي وساطته لتصبّ في حال نجاحها في رصيده لا رصيد غيره.


 
 

ولكن، هل ستكون وساطة «حزب الله» علنية فيتنقّل، كما جرت عادة، المعاون حسين خليل بين القصر الجمهوري وبيت الوسط، أم سيعيد النظر بالطابع العلني لهذه الوساطة، مكتفياً باتصالات مع الطرفين ولقاءات بعيدة عن الإعلام والأضواء؟ والسبب الأساس لهذا التساؤل مرده إلى كون اي وساطة علنية تؤدي إلى إحراج مزدوج للرئيس المكلّف، فهي تحرجه أمام الخارج الذي يشتكي من دور الحزب، ويرفض دعم لبنان ربطاً بهذا الدور، ويشترط لأي دعم استبعاد «حزب الله» مباشرة ومداورة عن اي تشكيلة حكومية، كما انّ وساطة من هذا النوع تؤكّد بأنّ الحكومة هي تكنو-سياسية مقنّعة، اي تضمّ اختصاصيين ولكن غير مستقلين، ولو لم يكن الحزب طرفاً في الحكومة ومشاركاً فيها، لما أبدى استعداده لتحرك يقرِّب ذات البين بين عون والحريري.

 

وفي موازاة ما يمكن ان تسببه وساطة «حزب الله» من إحراج للحريري، إلّا انّه يرى فيها مصلحة مباشرة له على ثلاثة مستويات أقله: المستوى الأوّل سياسي، وهو تقصّد، في موقف نادر، في الوقوف على مسافة واحدة من عون والحريري معاً، الأمر الذي أزعج العهد طبعاً بمجرّد مساواته مع رئيس «المستقبل»، ولكن الهدف من هذا التموضع الجديد للحزب ان يلعب دور ضابط إيقاع الحياة السياسية، على غرار ما كان عليه الوضع مع النظام السوري، فلا يقف مع طرف ضدّ آخر، بل يعتبر انّه معني بكل المشهد السياسي، ويتدخّل عندما يرى انّ كل طرف يفسِّر الدستور على طريقته وبما أدّى ويؤدي إلى «كربجة» الوضع سياسياً، وبالتالي يريد ان يحوِّل دوره إلى حاجة ليس فقط لحلفائه، بل لأخصامه المفترضين.

 

والمشكلة على هذا المستوى ليست في النصوص الدستورية التي وضعت لتُستخدم بالمنحى الإيجابي لا السلبي، واي وساطة بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف، أكانت من بكركي ام من الحزب ام غيرهما، تشكّل إدانة للرئيسين اللذين تفرض عليهما المسؤولية إبقاء اجتماعاتهما مفتوحة حتى إصدار مراسيم التأليف، وما يحصل يندرج في سياق سوء الإدارة السياسية التي ترمي المسؤولية على الدستور وتنتظر الوساطات الداخلية والخارجية، فيما كل المسؤولية تعود لهذا الأداء السياسي الذي لا يرتقي إلى مستوى المسؤولية وتحدّيات المرحلة.

 

والمستوى الثاني الذي يرى «حزب الله» بإنّ له مصلحة في مخاطبته هو المستوى الشعبي الذي يأمل ان تشكّل الحكومة مدخلاً للتخفيف من آلامه المعيشية وخوفه على مصيره، ويرى انّ اي حكومة تبقى أفضل من الفراغ، وبمعزل عن عدم صوابية هذا الإنطباع الشعبي، بدليل انّ الانهيار تواصل مع تشكيل حكومة الرئيس حسان دياب، إلّا انّ الناس وفي ما يتصل بأوضاعها الحياتية مباشرة، تتعلّق بحبال الهواء وتُقنع نفسها بأنّ التشكيل يبقى أفضل من عدمه، وبالتالي في ضوء هذا المزاج الشعبي بالذات يرى «حزب الله» انّ اي خرق في التشكيل يخدمه شعبياً، فيظهر بمظهر الحريص على ما تريده الناس.


 
 

والمستوى الثالث الذي يهمّ «حزب الله» من وراء الإعلان عن مسعاه الحكومي يتعلّق بتوجيهه رسالة إلى الإدارة الأميركية الجديدة بأنّه قوة استقرار في لبنان، وانّ دوره اللبناني يشكّل حاجة لتسيير شؤون الدولة مع قوى سياسية يستحيل اتفاقها وتوافقها وفقاً لمقتضيات الدستور، إنما تحتاج دوماً إلى وسيط، وما لم يكن هذا الوسيط متمكناً سياسياً لا يستطيع ان «يمون» على الطرفين، والدليل فشل الوساطات الأخرى بدءاً من الفرنسية، وهذا طبعاً في حال نجحت وساطته.

 

وفي مطلق الأحوال، لا يمكن تفسير رغبته بقيادة مسعى حكومي في هذا التوقيت بالذات خارج إطار مخاطبته واشنطن، وهو وإن يتعامل معها إعلامياً بأنّها «الشيطان الأكبر» ويرفض الظهور بمظهر المميِّز بين إدارة وأخرى، إلّا انّه في الواقع ينتظر، كما مرجعيته طهران، التسوية معها، خصوصاً انّ المنطقة في مرحلة إعادة خلط أوراق وهندسات جديدة، ودخوله على هذا الخط هدفه تقديم صورة عن نفسه لواشنطن، بأنّ دوره في لبنان نعمة لا نقمة. وإذا كان دخول «حزب الله» على خط الوساطة بين عون والحريري يشكّل مصلحة حيوية مثلثة له سياسياً وشعبياً وأميركياً، إلّا انّ هذا الدخول ينعكس سلباً على الصورة التي يسعى الحريري لتسويقها عن حكومته بكونها اختصاصية ولا علاقة لـ»حزب الله» بها، فيأتي مسعاه ليضرب ليس فقط الصورة التي يسعى الحريري لتظهيرها عن اختصاصية واستقلالية حكومته، إنما ليسلِّط الضوء على دور الحزب المساهم في ولادة حكومة الحريري وإزالة الألغام من طريقها، وبالتالي هذه الصورة التي تخدم الحزب لا تخدم الحريري. فكيف سيوفِّق بين حاجته لتوجيه الرسائل المثلثة، وبين حاجته للحريري وولادة الحكومة؟ وهل سيشجِّع الحريري الحزب على مسعاه من أجل تسريع ولادة الحكومة، ولكن سيطلب منه تأديته بالسر والكتمان؟ وهل يمكن ان يستبدل المسعى الذي أعلن عنه وسيكون مبدئياً علنياً، بديبلوماسية سرية يبدّي فيها الأهم، ولادة الحكومة، على المهم، دوره الذي بإمكانه ان يستثمره مداورة لا مباشرة؟ وماذا لو لم يدخل على خط المساعي، فمن سيكسر الجليد بين الطرفين؟