منذ أن توقّفت زيارات الرئيس المكلف تشكيل الحكومة سعد الحريري لرئيس الجمهورية ميشال عون عشيّة الميلاد، لم تخرج الى العلن اي مبادرة تؤدي الى اعادة إطلاق مفاوضات التشكيل. وتزامناً مع تأبّط الحريري قرار التكليف يجول به على بعض العواصم مُتجاهلاً الرسائل الموجهة اليه من عون ومن رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل، واصَلت بكركي حملتها على وَقع بعض الأفكار التي انتظرت عودة الحريري. وعليه، هل هناك من «مفتاح سحري» يفك أقفال التشكيلة الحكومية؟

 

امام حجم الأزمات التي تناسلت وتركت تردداتها السلبية على الساحة اللبنانية بوجوهها المختلفة بقي ملف تشكيل الحكومة العتيدة على حافة الإنتظار. والسبب الظاهر والبديهي انّ هناك جائحة وبائية انتشرت بين اللبنانيين وزرعت الرعب في بيوت اللبنانيين والمؤسسات بعدما بلغت الإصابات الذروة التي كان يترقّبها اللبنانيون منذ اشهر عدة عند الحديث عن موجات محتملة نتيجة انفتاح اللبنانيين على العالم، وإمكان استيرادها من مختلف القارات في ظل عجز الترتيبات عن كبح جماحها او توفير الدعم الكافي للقطاع الطبي والاستشفائي لتأهيله للمواجهة الكبيرة المتوقعة في اكثر من محطة بنحوٍ دقيق، كما بالنسبة الى العجز في تأمين اللقاح في التوقيت المناسب وبالحجم المطلوب قياساً على ما قامت به دول عدة.

 

وعلى رغم التوقعات الدقيقة التي تنبّأت بالمراحل التي ستشهد موجات هائجة للفيروس، فقد بقيت الخلافات التي عصفت باللجان الوزارية التقنية والطبية حول حجم الإجراءات التي يمكن للبنان اتخاذها ومداها، درءاً لمزيد من المخاطر التي هددت اللبنانيين في مختلف المناطق اللبنانية بنحو غير مسبوق. وهو ما أدى الى التخبّط في اتخاذ الإجراءات الضرورية في توقيتها الصحيح، فاجتاحت البلاد مجموعة من «المجازر المنظمة» في عيدي الميلاد ورأس السنة وفي المرحلة التي سبقت إعلان الاقفال الشامل وفي الرابع عشر من الشهر الجاري، فتسبّب الارباك الحكومي بمزيد من موجات الوباء نتيجة الزحمة في «السوبرماركات» والافران التي باتت تهدد عشرات الآلاف من المواطنين.


 
 

والى تبرير البعض لوجوه الفشل وردّها الى فقدان القرار السياسي والعجز في تمويل البرامج المقررة لدعم القطاع الطبي والاستشفائي ومستلزماتها، فقد أدى التعثر في تشكيل الحكومة الى زيادة نسبة القلق على المصير في ظل حكومة عاجزة عن القيام بالادوار التي توقّعها البعض منها. فبالإضافة الى دخولها مدار تصريف الاعمال يتلهّى بعض أعضائها بالمناكفات السياسية، فتناسَوا صفاتهم الاختصاصية لمصلحة السياسية والحزبية وربما الطائفية والمذهبية فارتكبوا ما لا يمكن معالجته.

 

فقد كان اللبنانيون ينتظرون من الوزراء الاختصاصيين إجراءات متشددة وصائبة، فإذا بهم يرتكبون الخطأ بعد الخطأ ما انعكس فشلاً في كثير من المجالات الحيوية التي انعكست بسرعة قياسية تدهوراً في أوضاع البلاد الى حدود الفوضى في كل القطاعات الاجتماعية والنقدية والمالية والادارية، وخصوصاً على مستوى ادارة ملف المساعدات الدولية والاممية وحسن استخدامها حيثما يجب وللهدف الذي وصلت من اجله الى لبنان.

 

والبحث عن الاسباب المباشرة وغير المباشرة ليس صعباً، فقد انعكست الخلافات بين الاقطاب على عدد من الملفات في معظم القطاعات. فانصرفت الدولة الى توفير الدعم لقطاعات تجارية وفق معايير «مافيوية» باختيار التجار الدائرين في فلك البعض منهم من دون إخضاعها للترشيد. وهو ما حال دون توفير الفوارق بمئات ملايين الدولارات الضائعة على معابر التهريب في اتجاه سوريا او في اتجاه مستودعات كبار التجار، الذين منحوا «الدولار المدعوم» للاستثمار في حجم التموين الكافي لفترات أطول بغية التلاعب بالاسعار وعدم احترام المهل، فانتقلت القطاعات الطبية الى لائحة ضحايا السياسات الفاشلة.

 

قد يكون كل ما سبق منطقياً لتبريرالفشل المحقق، لكنّ الإجماع لدى المراجع السياسية والديبلوماسية يدلّ بسرعة الى انّ المشكلة في فقدان حكومة كاملة المواصفات الدستورية من اجل ادارة الملفات، ولا سيما منها الوبائية والنقدية، فهي مفتاح الحل امام مصادر الدعم والتمويل غير الانساني. والشرط في ان تكون في الصيغة التي حددها الدعم الدولي والاقليمي، والتي تجاهلها معظم الأفرقاء الذين يريدون من الحكومة ما لا تحتاجه الأزمة ولا المجتمع الدولي تحت شعارات فضفاضة فارغة من مضمونها.

 

أضف الى ذلك، فإنّ المناكفات السياسية والحزبية أفرغت المساعي الأممية والفرنسية من مضمونها، وخصوصاً عند الحديث عن ضرورة احترام الحكومة لنتائج الانتخابات النيابية على خلفيّة حاجتها الى ثقة الكتل البرلمانية وما لم تكن هي من سَمت وزراءها، فإنّ ذلك سيكون متعذراً. وهو ما أدى الى شلل المبادرات التي اطلقت وأفرغت المبادرة الفرنسية التي ترنّحت في اكثر من محطة وصولاً الى اقتراب مرحلة سقوطها. وكل ذلك يجري من دون إدراك انّ مثل هذه النتيجة ان تحققت، ستنعكس نهاية لبرامج الدعم الدولي خارج الأطر الانسانية والطبية وتلك المخصّصة للنازحين السوريين وضحايا نكبة المرفأ.


 
 

ورغم معرفة الجميع بالحاجة الى الحكومة فقد تمادى المتمادون بشروطهم التعجيزية من دون تشكيل الحكومة، وسط أجواء توحي ان المكلفين المهمة لا يعتدُون بما وصل إليه الوضع، وهم يعتبرون ان هامش المناورة ما زال متاحاً لتبادل الشروط والشروط المضادة. فالرئيس المكلف للحكومة يتمسّك بشروطه وهو يدّعي تنفيذ ما قال به الدستور والمبادرة الفرنسية، فيما تجددت الحملات عليه وكأنه ما زال في مرحلة ما قبل تكليفه.

 

وعند هذه المعطيات يدرك أصحاب المبادرات، ومنهم البطريرك الماروني، الذي دعا رئيس الجمهورية الى الاتصال بالرئيس المكلف تعويضاً عن الإساءة التي ألحقها به ومعه رئيس «التيار الوطني الحر» في الايام القليلة الماضية. فيما يعترف الآخرون انّ ترددهم مردّه الى ضرورة انتظار عودة الحريري لمعرفة حجم استعداداته لتجاوز «الاهانة» التي تعرّض لها وسط اعتقاد أنه لن يتوقف عندها ولن يعطيها الحجم المطلوب، شرط التعويض عليها بخطوات عملية تطلق يده في عملية التأليف من أجل الانطلاق بمرحلة جديدة يستعد فيها لمبادرات كبرى تحتاج الى تفويضٍ مسبق لتجاوز حجم الغضب الدولي على أركان السلطة وحلفائهم الذين دمّروا علاقات لبنان بالعرب والغرب.

 

عند حدود التفويض الذي يستحقه الحريري كما يريده ام لا، فإنّ من بين أصحاب المبادرات من يعترف أنّ مثل هذا التفويض قد يكون مطلوباً لأنه «المفتاح السحري» للحل من اجل تجاوز الأزمة. فهل هناك من هو مستعد للتنازل وإعطاء هذا التفويض؟ وماذا سيكون عليه موقف «حزب الله» اذا كان وراء تَصلّب المتصلبين؟ وكيف سيوفّق بين مراعاته لظروف طرفي النزاع؟ وهل هناك من هو مستعد للتنازل، إحياءً لمقتضيات التكليف والتأليف؟ ومعها جميعها التنازل عن الأحلام بالثلث المعطّل؟ امّا أنّ هناك إصراراً، أيّاً كان ثمنه، على قبول استمرار العهد مشلولاً حتى نهايته؟