لم يعد واقعياً على الإطلاق أن يعود لبنان إلى الصيغة التي نشأت في العام 1943. الجميع متفقون على ذلك، لكن الخلاف يتعلق بالصيغة البديلة. هنا، «تُشمِّر» الطوائف عن سواعدها، تستعين بالأقربين والأبعدين من قوى النفوذ الخارجي، ويجد بعضها أنّ الفرصة سانحة لتحقيق انتصار جديد. وفي هذا تكمن المشكلة. فأي تفكير في غلبة أحدٍ على الآخرين سيعيد سيناريوهات الفشل والدم، فيما الفرصة متاحة لبناء مستقبل مزدهر وآمنٍ للأجيال الآتية!

قامت صيغة 1943 على الركنين الماروني والسنّي، وجرى التعاطي فيها مع الركن الشيعي وكأنّه شريك يأخذ حقّه وفقاً للحصة التي أرادا منحه إيّاها داخل النظام والمؤسسات.

 

الماروني اعتبر أنّه قدَّم «التضحية» بالخروج من المتصرفية وجبل لبنان، حيث له الغالبية الديموغرافية، وبـ«ضمِّ» مناطق الأطراف ذات الغالبية المسلمة. وثمن هذه التضحية هو ضمانة من «الشركاء الجدد» في المواطنية بعدم انتزاع «امتيازاته». وقد دعم الانتداب الفرنسي، عرّاب «لبنان الكبير»، هذا الخيار.


 
 

ولكن، في المقابل، لم يتمتع الشركاء المسلمون بالمقدار عينه من القوة. فقد كان السنَّة، الذين تتموضع غالبيتهم في المدن الساحلية، يمتلكون طاقات مالية هائلة، نتيجة النشاط التجاري والصناعي والسياحي وحركة الترانزيت، وتلقّوا دعم السلطنة العثمانية لأجيال، قبل أن يتلقّوا دعم الوسط العربي السنّي الآخذ بفرض حضوره بعد زوال الاحتلال العثماني والانتداب الفرنسي- البريطاني.

 

وأما الشيعة، فكانوا إجمالاً في مجتمعات ريفية فقيرة أو متوسطة الحال. ولم يكن لهم دعمٌ خارجي، لا من الغرب ولا من الشرق. وأقام أئمتُهم رباطاً دينياً ووجدانياً- عاطفياً مع النجف وقُم. وفي هذا المجتمع الريفي كانت تقودهم- كما الموارنة والدروز- طبقة من زعماء العائلات والوجهاء والمشايخ.

 

لا يمكن إنكار أنّ الشيعة لم يكونوا على قدم المساواة مع الشريكين الكبيرين، منذ عقد الصفقة بين بشارة الخوري ورياض الصلح، بمعزل عمّا إذا كان الشريكان قد تصرّفا معهم فعلاً بطريقة فوقية أو لا. وفوق ذلك، استعان السُنَّة لاحقاً بالنفوذ الفلسطيني في لبنان، فيما لم يكن للشيعة أي دعمٍ أو داعمٍ داخلي أو خارجي.

 

بدأ الشيعة «يتعملقون» بدءاً من مطلع سبعينات القرن الفائت. فنشوء نظام الأسد في سوريا كان الأساس في إضعاف النفوذ السنّي شرق المتوسط، ثم برزت ظاهرة الإمام السيد موسى الصدر، لتستنهض حضور الشيعة كشريك قوي في لبنان. وجرى تتويج النفوذ الشيعي بولادة الجمهورية الإسلامية في إيران وبدئها التغلغل في «الهلال» شرقاً.

 

إذاً، التوازنات الداخلية بين الطوائف تبدّلت جذرياً بعد 100 عام: الموارنة، والمسيحيون عموماً، تراجعوا بالديموغرافيا والنفوذ والدعم الخارجي. والسُنّة حافظوا على الديموغرافيا لكنهم خسروا من النفوذ والدعم الخارجي. وأما الشيعة فنموا بالديموغرافيا وربحوا بالنفوذ والدعم الخارجي. والشريك الشيعي هو اليوم الأكثر ديناميكية وقدرة على المبادرة.

 

لذلك، منطقي أن يرفض الشيعة أي عودة إلى تركيبة 1943، بمضامين الشراكة والنفوذ. فحتى اتفاق الطائف 1989 صيغ في المملكة العربية السعودية على أيدي الرعاة الغربيين خصوصاً. وصحيح أنّ الرئيس حافظ الأسد شارك في صناعته، ولكنه بقي تسوية ظرفية. واليوم، يريد الشيعة أن يذهبوا بعيداً في صياغة أي تسوية داخلية، فيكون لهم النفوذ الأكبر.


 
 

يريد الشيعة اليوم أن ينتقموا من صيغة 1943، وهم يعتقدون أنّ الفرصة سانحة لهم ما دامت إيران قوية ونظام الأسد ممسكاً بسوريا.

 

والأمر لا يتعلق فقط بالشراكة في اتخاذ القرار السياسي، لأنّ الشيعة شاركوا دائماً في هذا القرار، وعلى مدى عقود، بل يتعلق خصوصاً بالسيطرة على موارد البلد وقطاعاته ومرافقه (المال، المصارف، التجارة، السياحة… والأمن)، فهذه كلها بقي يغلب عليها الطابع المسيحي- السنّي.

 

لن يعود الشيعة إلى «الدولة القديمة» مهما كلّفهم ذلك. وهم اليوم قادرون على اتخاذ قرار بهذا الحجم، لأنّهم «مدجَّجون» بقوةٍ هائلة يجسِّدها «حزب الله». ولهذه الغاية، «الحزب» يستطيع تعطيل قيام الحكومات وإجراء الانتخابات النيابية والرئاسية والبلدية حتى إشعار آخر، ولكن أيضاً، يستطيع إفراغ هذه «الدولة القديمة» من كل محتوياتها، بحيث تتلاشى وتنهار، فيعيد تركيبها وفق الأسس التي تناسبه.

 

اليوم، لا يمكن للبنان أن يخرج من الهوّة العميقة التي يتمرّغ فيها، اقتصادياً ومالياً وسياسياً وأمنياً، إلاّ بإرادة ودعمٍ حقيقيين من «حزب الله».

 

«الحزب» يمتلك مفتاح «الجنّة اللبنانية» ومفتاح جهنّم التي تَوقَّعها الرئيس ميشال عون، وهو سيختار أياً من المفتاحين سيتمّ الإفراج عنه، وفقاً لمصالحه.

 

إذا كان «الحزب» يرفض العودة إلى صيغة 1943، فسيكون أمامه الآتي:

1- إبقاء الدولة مركزيةً وتكريس سيطرته عليها بهدوء وبشكل كامل، ومن دون استثارة المكوّنات الأخرى واستفزازها. وكثيرون يعتقدون أنّ هذا هو خياره المفضَّل في تركيبة تعددية ومعقّدة كلبنان، ومن دون الحاجة إلى عقد مؤتمر تأسيسي.

 

2- إبقاء الدولةِ مركزيةً وإجراء تسوية تمنح «الحزب» مشاركة أوسع في القرار وموارد الدولة، وهو ما يعبِّر عنه طرحُ «المثالثة». وهذا هو الخيار الثاني الذي يقبل به إذا تعذّر الأول. وإقراره يحتاج إلى مؤتمر تأسيسي.

 

3- القبول باللامركزية السياسية أو الفدرالية. وهذا الخيار يصبح وارداً إذا تراجع نفوذ إيران الإقليمي بقوة وتَبدَّل الواقع السياسي في سوريا، أي إذا عاد الشريك الشيعي إلى مرحلة ما قبل السبعينات، عندما كان يفتقد كل دعم خارجي.


 
 

ثمة مَن يقول إنّ «الحزب»، باحتفاظه بمنظومته العسكرية والأمنية، مدعومةً بمنظومة مالية واقتصادية واجتماعية تتكامل سريعاً في الفترة الأخيرة، هو يُدعِّم «فدراليته» واقعياً، من باب التحوُّط.

 

لكن تثبيت هذا الاتجاه، وتفكير «الحزب» بالخيار الفدرالي، لن يكونا مرهونين بالعوامل الداخلية، بل بما سترسو عليه التحوّلات الكبرى المرتقبة إقليمياً ودولياً، وما تقود إليه من انقلابات.