توقفت مراجع ديبلوماسية وسياسية أمام إصرار رئيس الجمهورية ميشال عون امس الاول، على رفع شكوى عاجلة الى مجلس الامن ضدّ الخروقات الاسرائيلية الجوية اليومية. وسألت، لماذا توقف لبنان امام الجديد ـ القديم منها، وما سمّته هذه «الإستفاقة» في توقيتها ومضمونها، التي رفعت من عدد الشكاوى التقليدية المطروحة على المنظمة الدولية؟ وعليه، فهل كان هناك من جديد يستدعي مثل هذه الخطوة؟

في غمرة الإهتمامات بكمّ الازمات التي يعاني منها اللبنانيون على اكثر من مستوى اجتماعي ووبائي ونقدي وسياسي وحكومي، طلب رئيس الجمهورية من وزير الخارجية والمغتربين في حكومة تصريف الاعمال شربل وهبه، توجيه رسالة عاجلة الى مجلس الامن الدولي والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، لإدانة ما ترتكبه إسرائيل من اعتداءات وخروق جوية لسيادة لبنان وللقرار 1701، وذلك بعدما تكثفت الانتهاكات الجوية الإسرائيلية للأجواء اللبنانية.

 

وقبل الدخول في الوجوه المختلفة لمثل هذه الخروقات وتداعياتها، لا بدّ من التذكير، انّ الخطوة الرئاسية تزامنت، ليس مع البيان اليومي للجيش اللبناني الذي يوثق آلاف الطلعات الجوية، وآخر عن مكتب وزيرة الدفاع زينة عكر، اكّدت فيها خطورة استمرار هذه الخروقات، تزامناً مع «إدانات وردود فعل شاجبة وشديدة اللهجة، تحمّل لبنان المسؤولية عند عبور راعٍ عن طريق الخطأ ولأمتار معدودة من الحدود اللبنانية». كذلك، جاء بيان المتحدث بإسم القوات الدولية (اليونيفيل) العاملة في جنوب لبنان أندريا تيننتي، ليؤكّد انّ قواته سجّلت في الأيام الماضية الأخيرة عدداً من الطلعات الجوية من دون طيار وطائرات مقاتلة إسرائيلية، محذّراً من «أي أنشطة تعرّض وقف الأعمال العدائية بين لبنان وإسرائيل». ولافتاً الى انّها من «الانتهاكات للقرار 1701 وللسيادة اللبنانية»، وزادت من «الخوف بين السكان المحليين»، منبّهاً من ان تكون سبباً مباشراً «تقوّض جهودنا للحدّ من التوترات، وتهيئة بيئة أمنية مستقرة في جنوب لبنان».


 
 

وبعيداً مما لا يُعَدّ جديداً بارزاً يستأهل التوقف عنده، فقد كثرت التساؤلات عن الاسباب التي دفعت رئيس الجمهورية الى هذه الخطوة بالذات، في توقيتها وشكلها ومضمونها.

 

ففي التوقيت، قد لا يكون هناك سبب «فاقع» لاتخاذ هذه الخطوة في اتجاه المنظمة الاممية، سوى الخروق المتمادية في توقيتها اليومي وبنحو متكرّر، بمعدل 4 او 5 طلعات. فقبل مطلع السنة الجديدة بقليل وحتى اليوم، كثفت الطائرات المعادية من خروقاتها، من دون القيام بأي عمل عسكري على الاراضي اللبنانية. وان توسعت لتشمل السماء اللبنانية كاملة، فقد خرقتها في اتجاه الاجواء السورية والعراقية، بالحجم الذي يساوي عدد الغارات التي تشنها على مواقع القوى الموالية لإيران والجيش السوري، كما بقايا «داعش» في الداخلين السوري والعراقي، وصولاً الى مثلث الحدود العراقية ـ السورية - التركية المشتركة.

 

وإذ لفتت المراجع المراقبة عسكرياً واستخبارياً، الى بعض التفاصيل، فهي توقفت عند بدء اسرائيل باستخدام طائرات الـ «F18» المعروفة بـ «الشبح»، في العمليات البعيدة المدى على جانبي الحدود السورية - العراقية، بالإضافة الى طائرات الـ «F16»، كما حصل عند العاشرة والنصف تقريباً من ليل امس الاول الثلثاء ـ الأربعاء، في الغارات التي استهدفت مواقع للجيش السوري والحرس الثوري الايراني و»لواء الفاطميين» قرب البوكمال. وهو ما اشار اليه «المرصد السوري لحقوق الإنسان»، الذي قال انّ عدد القتلى بين أفراد الجيش السوري والعناصر الموالية لإيران جراء هذه الغارات ارتفع إلى 57 قتيلاً، هم 7 جنود سوريين و50 عنصراً من المجموعات الموالية لإيران. وكان ذلك قبل ان يؤكّد مسؤول استخباراتي أميركي، انّ الغارات الإسرائيلية استهدفت «مستودعات كانت بمثابة خط أنابيب لمكونات تدعم البرنامج النووي الإيراني».

 

اما في الشكل والمضمون، فقد جاءت الخطوة لتواكب الأجواء الدولية والاقليمية المتأثرة بما يمكن ان تشهده المنطقة في الايام الفاصلة عن نهاية ولاية الرئيس الاميركي دونالد ترامب، وقبل دخول الرئيس جو بايدن مكتبه في البيت الابيض بعد 6 ايام، قد تكون، بحسب المتابعين، حافلة بالتطورات المفاجئة وغير المحسوبة سلفاً. حيث انّ كل التقارير الديبلوماسية والاستخبارية تتحدث عن مجموعة من العمليات النوعية التي قد تقوم بها اسرائيل بالإنابة عن الاميركيين في سوريا والعراق، بالإضافة الى لبنان، من ضمن المواجهة المفتوحة بكل اشكالها بين واشنطن وطهران وحلفائها.


 
 

وفي التقارير الديبلوماسية اكثر من إشارة الى احتمال ان تضمّ اسرائيل الساحة اللبنانية الى الساحتين السورية والعراقية، على خلفية استعداداتها لمواجهة اي عملية يهدّد بها «حزب الله» وايران، انتقاماً ليس لمقتل اللواء قاسم سليماني مطلع العام الماضي فحسب، بل لتكون رداً على اغتيال أب القوة النووية الايرانية محسن فخري زادة قبل اسابيع. فقد تحدثت طهران عقب الحادث عن دور صواريخها المزروعة في مناطق المواجهة المتقدّمة في لبنان وغزة مع اسرائيل، وهو ما رفع من نسبة القلق على امكان حصول اي عملية عسكرية إن وقع اي حادث امني على الحدود الجنوبية تحت هذا الشعار او في اي منطقة من العالم، يمكن ان تُوجّه من خلاله اصابع الاتهام الى «حزب الله» قبل ايران.

وفي المعلومات المستقاة من مراجع ديبلوماسية وعسكرية واستخبارية، انّه وللمرة الاولى طوال السنوات الماضية، أُضيفت في الايام الاخيرة اهداف محدّدة في لبنان الى بنك الأهداف الاسرائيلية المحتملة في المنطقة، كما في سوريا والعراق وغزة، وهو امر رفع من حال الاستنفار القصوى في المنطقة، انتظاراً لمرور الفترة الفاصلة بين نهاية ولاية ترامب وبداية ولاية بايدن، رغم انّه لم تكن بعد للحزب اي ردة فعل على اغتيال زادة بعد سليماني، انطلاقاً من الأراضي اللبنانية، وحصر اي ردّ حتى اليوم ان تعرّض رجاله في سوريا لأي عمل عسكري.

 

وعطفاً على هذه المعلومات، فقد تردّدت في الساعات القليلة الماضية معلومات عن امكان شن اسرائيل علميات دقيقة في ثلاث ساحات محتملة ما بين قلب بيروت او ضاحيتها الجنوبية، كما في المنطقة المحاذية للجولان السوري المحتل، او في قلب دمشق وضواحيها، وهو ما دفع الى رصد تحليق الطائرات الاسرائيلية بكثافة في الاجواء اللبنانية طوال الايام القليلة الماضية، في انتظار ساعة الصفر.

 

وإذا كانت الساحة اللبنانية من اقل الساحات احتمالاً لأن تشهد مثل هذه العمليات، بحسب مرجع ديبلوماسي لبناني، فقد لفتت القراءات العسكرية الى انّ الطلعات الجوية المكثفة فوق لبنان، لا تقتصر على احتمال القيام بعملية مستبعدة، ما لم يعطها «حزب الله» الذريعة التي تنتظرها في اي وقت. انما الخوف من ان تكون قد رصدت اهدافاً في مناطق حساسة، لا تريد تنفيذ اي عملية فيها قبل التثبت من عدم وجود المدنيين فيها، بالإضافة الى وجود ما يبرّر لها مثل هذه العملية، لئلا تُحتسب «حماقة» في الداخل الاسرائيلي، قبل ان تنال التوصيف اللبناني او العربي والايراني التقليدي.

 

على هذه الخلفيات، وانطلاقاً من القراءة الجديدة العسكرية والديبلوماسية والاستخبارية لكثافة الطلعات فوق لبنان في الايام الماضية، كان رئيس الجمهورية مستعجلاً في تسجيل الشكوى اللبنانية في هذه المرحلة بالذات. ولو لم يكن هناك جديد، لكان على لبنان ان يُنشئ مكتباً خاصاً ملحقاً ببعثته الدائمة لدى مجلس الامن، مهمته اليومية الإبلاغ الى الامم المتحدة بجدول الخروقات المرتكبة بالآلاف التي تسجّلها قيادة الجيش وقيادة «اليونيفيل» منذ سنوات، والتي تحولت عملاً روتينياً وتقليدياً يثير الريبة، إن تأخرت هذه الطلعات يوماً او يومين فوق لبنان.