مفاجئة كانت زيارة الرئيس سعد الحريري الى تركيا، خصوصاً انها جاءت بعد زيارته الى الامارات، إحدى اكثر الدول خصومة مع حالة الاخوان المسلمين، وبالتالي مع الدول الداعمة لهم وفي طليعتها قطر وتركيا. لكنّ التحليلات الكثيرة التي تطرقت الى زيارة الحريري الى تركيا لم تكن صحيحة بسبب افتقادها للمعلومات والمعطيات الحقيقية. مع الاشارة ايضاً الى انّ سفارات كثيرة تعمل في لبنان اهتمّت كثيراً لمعرفة الخلفيات الحقيقية لهذه الزيارة.

في الواقع إنّ علاقة الحريري بالرئيس التركي اردوغان لم تنقطع يوماً حتى في عزّ الصراع مع السعودية والامارات. وحافظ كلا الرجلين على علاقة مميزة الى حد بعيد، وهو ما تشهد عليه الدعوة الوحيدة التي تلقّاها مسؤول لبناني لحضور زواج ابنة اردوغان، والحريري كان الشاهد.

 

صحيح انّ العلاقة شهدت شيئاً من البرودة بسبب تعقيدات الصراع التركي - الخليجي، لكنها بقيت قائمة. ومع الاندفاعة الاميركية لإجراء مصالحة خليجية مع قطر، والتي طالت في بعض جوانبها العلاقة مع تركيا، وجّه اردوغان دعوة رسمية للحريري لزيارة تركيا وذلك منتصف الشهر الماضي. يومها، كان الحريري يخطط لقضاء عطلة العيد مع عائلته في ابو ظبي. وجرى التفاهم على ان يزور تركيا بعد انتهاء إجازته العائلية.


 
 

في الواقع، وصلت عائلة الحريري الى دبي، ومنها انتقلت الى ابو ظبي حيث التقت بالرئيس الحريري الذي لم يلحظ برنامج عطلته لقاءات رسمية مع مسؤولين اماراتيين، ولو انّ وجوده في الامارات لم يخل من بعض الاتصالات.

 

وبخلاف ما تردد فإنّ الحريري لم يزر السعودية، وهو تَقصّد ان يعود الى بيروت لساعات قبل سفره الى تركيا كي لا تكون الرحلة مباشرة، وبالتالي فتح باب التكهنات. وفي تركيا التي كثرالحديث عن سعيها لنفوذ في لبنان خلال الاشهر الماضية، تَعمّد الرئيس التركي إضفاء طابع الحفاوة والتكريم والعلاقة الحميمة على لقائه بالحريري. فكان اللقاء حول مائدة الغذاء، واقتصر عليهما لوحدهما ودام اكثر من ساعتين. كان يريد ان يقول: علاقتنا أقوى من الظروف وتبدلاتها.

وسأل الحريري الرئيس التركي عن حقيقة وجود تَوجّه تركيّ لِبَسط نفوذٍ في شمال لبنان، على قاعدة تفعيل حالة سنية بوجه الحالة الشيعية لأنّ ذلك سيؤدي الى دفع لبنان باتجاهات الفوضى الشاملة.

 

وردّ اردوغان نافياً وجود اي نية بهذا الاتجاه. واضاف: لستُ بهذا الوارد على الاطلاق. لا نريد الخربطة في لبنان، ولا نية لدينا حتى للدخول الى ساحته. وتابع اردوغان قائلاً: هنالك بعض الفرقاء في لبنان حاولوا «دَق بابنا» في هذا الاطار، ولكننا لم نتجاوب. فنحن ليس لدينا أجندات في لبنان في هذه المرحلة. عندها، قال الحريري انّ لبنان يمر بظروف صعبة، وانّ المبادرة الوحيدة المطروحة لإنقاذه هي المبادرة الفرنسية، وقد تكون المبادرة الاخيرة. واراد الحريري ان يلمّح الى تجنيب لبنان آثار الصراع التركي - الفرنسي في المنطقة.

 

عندها، أخذ اردوغان الكلام مُستعرضاً الصراع الدائر في منطقة شرق البحر الابيض المتوسط، ومُعدّداً المشاكل الكبيرة بين بلاده وفرنسا. لكنه اضاف بأنّ تركيا ستكون مع اي خطوة تساعد استقرار لبنان. وكان لافتاً انّ اردوغان تَجنّب لفظ عبارة المبادرة الفرنسية، لكنه عزّز مرة جديدة خياره الرسمي بعدم الاقتراب من الساحة اللبنانية، وكأنه ملتزم بالقرار الاميركي بعدم السعي لتوسيع دائرة الفوضى في لبنان.

 

كذلك تطرّق الحريري الى العقبات السياسية التي تقف حائلاً بوجه ولادة الحكومة، خصوصاً مع تَصاعد المزيد من الشكوك حول وجود خلفيات اقليمية تقف حائلاً امام الولادة الحكومية.


 
 

وأعربَ اردوغان عن تمنياته بالمساعدة في تأمين الاستقرار السياسي من خلال ولادة الحكومة، وتابع مشيراً الى انه سيتحدث مع مَن يجب، لكن من دون الاشارة الى مَن يقصد بكلامه، وقد يكون الحريري فهمَ انّ المقصود بكلامه هي ايران، التي تربطها بتركيا شبكة مصالح حيوية في المرحلة الاخيرة.

 

في الواقع، وبخلاف بعض النظريات السطحية التي راجَت، فإنّ الحريري لم يبحث استبدال الدعم السعودي بدعمٍ تركي، فالحسابات في هذا الاطار اكبر من اطراف المنطقة. لا بل على العكس، ذهبَ للتأكيد على عدم تورّط تركيا في لبنان، ولو انّ علاقته مع السعودية ما تزال على برودتها السابقة او في افضل الاحوال فهي تتحسن ببطء شديد. فالمشكلة انّ السعودية تغيرت واصبحت استراتيجيتها السياسية مختلفة. هي على تباين مع سياسة الامارات في هذا المجال التي ما تزال تقول: تعالوا لنواجه ايران في الساحات الاخرى، قبل ان نضطر لمواجهتها على ارضنا. فيما السعودية تعتبر انّ أولوية التركيز هي على اليمن وإنجاز تسوية سلمية، وأن التَلهّي بالساحات الاخرى لم يعط اي نتيجة لا بل على العكس. وأنه في حال تحقيق نتيجة واضحة ضد النفوذ الايراني، عندها فقط نصبح مستعدين لإعادة فتح ابواب مساعداتنا. وهذا ما ينطبق بطبيعة الحال على الواقع اللبناني.

 

ووفق هذه النظرة المتشددة يعتقد الرئيس الحريري انه غير قادر بتاتاً على التراجع خطوة واحدة في التركيبة الحكومية، وإلّا فهو سيغامر بعدم الحصول على مساعدات خليجية، وبالتالي الذهاب الى القدر المحتوم، أي الانهيار الكبير. مع معرفته ايضاً بأنّ الوقت يضيق، وانّ ما بات يفصلنا عن موعد الارتطام هو مسألة شهرين او ثلاثة على ابعد تقدير. ما يعني انّ المناورات الجارية حول الولادة الحكومية تعتمد على عامل الوقت في حسابات مختلف الاطراف. فرئيس الجمهورية، الذي يتمسّك بحكومة تمنح رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل نفوذاً قوياً من خلال الثلث المعطّل، يُراهِن على تراجع الحريري وتبديل موقفه انسجاماً مع مواقفه السابقة. فجميع المعارك الحكومية السابقة كانت تنتهي بتراجع الحريري لا بل حتى معركة قانون الانتخابات شهدت النتيجة نفسها، وهو ما يعني رفع سقف المواجهة في المرحلة الحالية.

 

وتنقل مصادر ديبلوماسية عن باسيل قوله في لقاء خاص: أعطونا بعد شهراً إضافياً وستشاهدون كيف سيتراجع الحريري. انها لعبة عَض الاصابع التي يخسر فيها كل مرة.


 
 

والرئيس المكلف بتشكيل الحكومة، والذي يَشكو من تأثير باسيل على التفاهمات مع الرئيس عون، أبلغ المعنيين، ولا سيما الطرف الفرنسي، انه غير مستعد للموافقة سوى على التشكيلة الحكومية التي قدّمها، لأنّ السَير بتركيبة محاصصة حزبية او على شاكلة حكومة حسان دياب ستعني حكماً أخذ البلد الى الافلاس الكامل.

 

وقيل انّ الحريري ابلغّ الجانب الفرنسي ايضاً انّ الرهان على اللعب بأعصابي لن يجدي نفعاً في هذه الظروف، لأنّ أحداً لن يساعد لبنان وتصبح الولادة الحكومية وكأنّ شيئاً لم يكن. ونصح الحريري الفرنسيين بعدم الخضوع للعبة «اهتراء» الاعصاب.

 

وانّ الحريري يدرك انّ ما تبقى قبل الانهيار الشامل مسألة شهرين او ثلاثة أشهر كحد أقصى. وبالتالي، سينتظر حصول المعجزة لهذه الفترة قبل ان يعمد الى نشر التشكيلة الحكومية التي أودعها رئيس الجمهورية، ليحكم الرأي العام على نوعية أسماء التشكيلة الوزارية.

 

وروى الحريري انه خلال اللقاء الاخيرة مع رئيس الجمهورية، بادَره عون بالقول: جبران يحبّك، لماذا انت لا تحبه؟

 

فأجابه الحريري بأنّ المسألة ليست مسألة عواطف بل تأمين المساعدات الخارجية من خلال حكومة ثقة.

 

وفي اليوم التالي، وصفَ باسيل، في مقابلة إعلامية، علاقته بالحريري بأنها «حبّ من طرف واحد». لكنّ الجديد عند الحريري هو ما تطرّق اليه في تركيا، اي الخلفية الاقليمية، او موقف «حزب الله» يريد ولادة حكومية سريعة، لكنه اليوم بدأ يشكّك بذلك. هو بالتأكيد لم يصل بعد الى حد مُجاراة وليد جنبلاط في تقييمه لموقف «حزب الله»، لكنه ايضاً لم يعد موقفه كما كان سابقاً. فثمّة مَن في الحلقة اللصيقة بالحريري، بدأ يقتنع بأنّ «حزب الله» يتحضّر لمرحلة الافلاس الكامل، وهو يريد الارتطام للذهاب الى المؤتمر التأسيسي. وانه يعمد لحماية الموقف المتصلّب لباسيل إن لم يكن لتشجيعه، للوصول الى الفوضى الشاملة، ومنها الى ولادة الجمهورية الثالثة.

 

وانّ خطأ رئيس الجمهورية انه يتعاطى مع واقع خطير من زاوية المصالح الضيقة والصغيرة، تماماً كما يعتقد البعض بأنّ العقوبات على باسيل كانت من إنتاج نائب سابق من جبل لبنان وصادقَ عليها لاحقاً الحريري وجنبلاط وجعجع، ما سمح لواشنطن بإصدارها.

 
 

في الواقع المسألة أعقد وأبعد بكثير. والاستنتاج من كل ما سبق، أنّ الولادة الحكومية الطبيعية مستبعدة، وانه لا بد من صدمة ما.