من حق كل فريق سياسي وضع الأولويات أو الأهداف التي تناسبه ومن ضمنها الدعوة لاستقالة رئيس الجمهورية ميشال عون او إسقاطه. ولكن ما يجب أخذه في الاعتبار، انّ تحويل المواجهة من وطنية إلى مسيحية، يخدم عون وتياره وحليفه «حزب الله» لا العكس.

استفاد رئيس الجمهورية من معركة الصلاحيات التي فُتحت في وجهه من جانب نادي رؤساء الحكومات وغيرهم، فحاول ان يشدّ عصب المسيحيين من زاوية انّ الرئيس المكلّف يريد ان يتعامل معه كصندوق بريد لا كشريك في التأليف له توقيعه. ومعلوم أنّ هذا النوع من المواجهات عدا عن كونه يستسيغها بالفطرة، فإنّه بأمسّ الحاجة إليها لتعيد بعضاً من شعبية مسيحية تراجعت بشكل كبير، بسبب الفشل في إدارة البلاد التي وصلت إلى ما وصلت إليه من انهيارات وكوارث.

 

ومن يطالب القوى المسيحية بأن تتصدّر المطالبة بإسقاط رئيس الجمهورية يخدم، من دون ان يدري، الرئيس عون وتياره السياسي و»حزب الله» لثلاثة أسباب أساسية:


 
 

السبب الأول، لأنّ المواجهة يجب ان تبقى من طبيعة وطنية لا طائفية. وتطييف الصراع يخدم فريق 8 آذار، حيث من الخطأ تحويل المواجهة إلى إسقاط رئيس الجمهورية أو عدم إسقاطه، باعتبار انّ المشكلة منذ العام 2005 هي مع فريق 8 آذار مجتمعاً، والعماد ميشال عون انتُخب في العام 2016، وكان جزءاً من هذه المشكلة منذ عودته من المنفى إلى بيروت، ولا يصحّ تفريع المشكلة بوضعها مع رئيس الجمهورية وتحييد فريق 8 آذار عموماً والثنائي الشيعي تحديداً. فلم يصل البلد إلى ما وصل إليه سوى بفعل سياسات هذا الفريق، ولن يبدّل تغيير الرئيس في هذا الواقع شيئاً، والدليل انّ «حزب الله» خرج من لبنان للقتال في سوريا في عهد الرئيس ميشال سليمان، وعندما اصطدم الأخير بالحزب في النصف الثاني من ولايته لم يتراجع الحزب عن سياساته، بل ذهب قدماً إلى الأمام، وبالتالي المشكلة كانت وما زالت في سلاح «حزب الله» ودوره، واي مقاربة أخرى تشكّل تهرّباً من المواجهة المطلوبة التي يجب إعادتها إلى المكان الصحيح، اي مواجهة مع 8 آذار مجتمعاً لا بالمفرّق.

 

السبب الثاني، لأنّ طبيعة الأزمة اليوم ليست فقط وطنية وسياسية بين مشروعين متناقضين، إنما مالية واقتصادية ومعيشية واجتماعية، والانهيار الحاصل جعل جميع اللبنانيين معنيين بوضعهم ومصيرهم، خلافاً لما كان عليه الوضع إبّان المواجهة بين 8 و14 آذار، عندما كان هناك شريحة واسعة تجد نفسها غير معنية بالطرفين، ولكن بعد ان لمست لمس اليد بأنّ استقالتها وتحييد نفسها كان خطأ، بدليل الارتدادات السلبية على معيشتها، أيقنت انّ المعبر لتصحيح أوضاعها يكون عن طريق قيام الدولة الفعلية والحقيقية، ما يعني جعل المواجهة بين مشروع قاد لبنان إلى الإفلاس والكوارث، ومشروع آخر يعيد لبنان سويسرا الشرق، واللحظة الحالية أكثر من مؤاتية بفعل الغضب الشعبي ورفع الغطاء العربي والغربي، وبالتالي ضرورة الاستفادة من هذه المعطيات، من خلال فك الربط نهائياً مع فريق 8 آذار، وليس تقزيم المشكلة إلى إسقاط رئيس الجمهورية، فيما يجب إسقاط كل فريق 8 آذار وكفّ يده عن السلطة.

 

السبب الثالث، لأنّ الرئيس عون يمثِّل أساساً حيثية مسيحية، وكل المواجهات التي خاضها رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل إبّان رئاسة عون وقبلها كانت على خلفية مسيحية، ومع تراجع شعبية هذا الفريق المسيحي، يجد نفسه بحاجة إلى إعادة التعبئة المسيحية التي تشكّل الباب الوحيد لاستعادة بعضاً من شعبيته، وقد استفاد مسيحياً أخيراً، وذلك على سبيل المثال، من خلال الترويج انّ الرئيس المكلّف يريد تسمية الوزراء المسيحيين، فيما المرجعيات السياسية الشيعية والسنّية والدرزية هي التي تسمّي وزراءها، خصوصاً انّ الرئيس المكلّف ليس اختصاصياً ولا مستقلاً، بل يرأس تياراً سنّياً، وبالتالي كيف بالحري عندما تتحول المواجهة مسيحية - مسيحية بعنوان إسقاط رئيس الجمهورية، فيتمّ نقل عنوان الأزمة من وطنية مع «حزب الله» ومشروعه، إلى مسيحية يُتهِّم فيها القوى المسيحية التي تقود هذه المواجهة بأنّها تُضعف موقع الرئاسة الأولى ودورها، والعودة إلى المعزوفة القديمة بأنّ هذه القوى نفسها التي وافقت على اتفاق الطائف وأضعفت موقع الرئاسة تواصل العمل نفسه، وهو أمر غير صحيح، لأنّ الطائف الذي لم يُنفّذ أعاد تصحيح الخلل في مفهوم الشراكة، والصلاحيات في مجتمع تعددي تقف عند حدود الطوائف ولا تتجاوزها، بدليل انّ رئيس الجمهورية في الجمهورية الأولى لم يكن مطلق اليدين كما يُصوّر، إنما كانت تقف صلاحياته عند حدود إرادة الشارع السنّي او غيره.


 
 

ومن ثم، اي تفكير بإسقاط رئيس الجمهورية، على رغم صعوبة إسقاطه عملياً، لأنّه عدا عن انّ للرئيس شارعه، فهناك شارع «حزب الله» أيضاً، يجب ان يستتبع بتفكير من يخلفه. والخطيئة الأصلية بدأت من خلال إصرار فريق 14 آذار على التعايش مع الحزب، وصولاً الى انتخاب رئيس من صفوفه، بحجة انّ الفراغ يقضي على اتفاق الطائف، وبالتالي يجب العودة إلى جذور المشكلة لا قشورها، الأمر الذي يستدعي إعادة إنتاج كل السلطة بدءاً من مجلس النواب وصولاً إلى رئاسة الجمهورية، ورفض اي مساومة او تنازل او تعايش مع فريق 8 آذار.

 

وعلى الرغم من النيات الحسنة لمن يطرح إسقاط رئيس الجمهورية، ولكن يجب التمييز بين الطرح، وبين النتائج المطلوبة، وهذه النتائج غير ممكنة التحقق ما لم تلتحم الأكثرية المسيحية مع الأكثرية السنّية مع الأكثرية الدرزية مع الأكثرية الشعبية التي انتفضت في 17 تشرين، وان تستفيد من الحظر العربي والغربي على الفريق الحاكم، بأن تستظل هذا المناخ من أجل دفع مشروع الدولة قدماً، مستفيدة من أخطاء الماضي تجنباً لتكرارها، خصوصاً انّه لم يعد من شيء يمكن خسارته بعدما انهار كل شيء في لبنان.

 

ويُخطئ من يعتبر انّ بمفرده يستطيع قلب الطاولة وتغيير المعادلات، فيما أقصى ما يمكن ان يحققه يكمن في تسجيل المواقف او المزايدة السياسية، والحلّ الوحيد يكمن في إعادة تجميع القوى السيادية والربط مع الناس ومع الخارج، وخلاف ذلك، فإنّ الأزمة ستراوح. والخطوة التالية بعد تأسيس جبهة وطنية جديدة، ترك فريق 8 آذار يتخبّط بالسلطة التي أُفرغت من كل شيء، وتخييره بين الفوضى التي يقود البلاد إليها، وبين الذهاب إلى مشروع إنقاذي بشروط البلد وقواعد الدولة. والمخاوف من استخدامه السلطة لم تعد كما كانت سابقاً، لأنّه لم يعد هناك من سلطة، ومن هو في السلطة أضعف من القيام بأي شيء.

 

فالمطالبة بإسقاط الرئيس عون تقوّيه وتعزز وضعه مسيحياً، وهذا ما يريده ليتحصّن مسيحياً من الأزمة التي تسبب بها وطنياً، فيما الأزمة القائمة ليست مسيحية، بل وطنية بامتياز، وحلّها لا يكون بتغيير رئيس الجمهورية، الذي لن يبدِّل تغييره شيئاً في المشهد الوطني ولا في معالجة الأسباب العميقة للأزمة اللبنانية، إنما التغيير المطلوب هو في الإطاحة في كل الأكثرية القائمة، تمهيداً لفرض قواعد سياسية جديدة، بالعودة إلى الدستور ودور الدولة المغيّب منذ عقود.