فكم من مفردات ولدت وعاشت وترعرعت وهي أكثر من أن تحصى. إن العلاقة الحية بين الإنسان واللغة تستند إلى الفهم والعقل، وعليه، فهي تقوم على العقلانية والمنطق ولا يمكن بدونهما أن تقوم قائمة للغة بين الناس.
 

كنت أتردد دائماً في نقد النحو العربي وفي القواعد السيبوية وأتباعه النحاة، والمدارس التي لحقت به من قواعده المقعَّدة والمعقَّدة، وينتابني في أغلب الأحايين شعورُ خوف، وكأنني أمام نصِّ سماوي وحياني لا يمكن نقده أو المساس به، كونه نصَّاً مقدَّساً. فرقٌ فارق! إذ أنَّ القواعد السيبوية ـ العربية ـ هي نتاج مخلوق، والقرآن نتاج الخالق، وهنا، كما يقولون "مربض الفرس" إذ أنَّ القرآن الكريم نزل باللغة العربية ـ لغةً ولساناً ـ والقرآن يؤكد ذلك في العديد من آياته الكريمة، في سورة يوسف "إنَّا أنزلناه قرآناً عربياً..."وفي سورة الشعراء".. بلسانٍ عربيٍّ مبين".

 

 

  إنَّ القواعد العربية مخلوقة، فهل يمكنها أن تُقيِّد كلام الخالق، وتحيط بتمام المعنى الذي أراده الخالق؟ بالطبع لا يكمن ذلك؟ وإن كانت "اللغة" هي آلية للوصول إلى فهم المعنى، ولكن لا يمكن لها الإحاطة بتمامية المعنى. وحتى لو سلمنا بالإمكانات الواسعة للغة العربية، وسلمنا بما قام به "الخليل بن أحمد الفراهيدي ـ المتوفى سنة 170 ه " في كتابه "العين" من خلال المنهج الرائع الذي حصر مركبات حروف المعجم كلها، فوصل إلى كل ما يمكن نظرياً لهذا اللسان العربي أن ينطق به من الألفاظ فبلغت فيما يرويه البعض " 12305412" لفظاً، ثم عرضها على اللسان العربي المستخدم بالفعل، فما كان منها فيه أبقاه وسجله، وما لم يكن مستخدماً أغفله ولم يسجله. إنَّ الأثر الذي تركه هذا المنهج الرائع بسبب إعلانه رسمياً ومدوَّناً بين دفتي كتاب، جعلوه نصاً بذاته، وهذا ما سبب لنا إغلاق الحدود بين "اللغة" وبين حركة التطور في الزمن. وثانياً ما يشعرنا بالمحدوية، أي محدودية "النص" وبالتالي فإنَّ النص القرآني بريئاً من بصمة التاريخ والجغرافيا. 

 

 

  إنَّ اللغة العربية لهي من اللغات السَّامية، كالعبرانية والسريانية والفنيقية والحبشية وغيرها، وهي نوعان: لغة الجنوب القحطانية، ولغة الشمال العدنانية، وهذه تطوَّرت بالتمازج والإختلاط، أولاً باللغة الجنوبية ثم باللهجات القبلية، وأخيراً طغت لغة قريش، فنزل القرآن الكريم باللغة العربية ـ لساناً عربياً ـ وبلهجة قريش، وخاطب جميع العرب والناس كافة، إلاَّ أنه لم يخضع لقواعد العربية ـ السيبوية ـ وغيره. ولأنَّ لغات العرب متعدِّدة ومتباينة في الألفاظ والمعاني، وهي على أكثر من 33 لغة، ذكرها صاحب كتاب ( اللغات في القرآن) المعروف بابن حسنون ـ عبدالله بن حسنون ـ ت 1515 / 1604. وهو من كبار علماء الصوفية في المغرب، وما ذكره المؤرخ العراقي "جواد علي" في تاريخه:(....القبائل التي أكثر علماء العربية أخذ اللغة عنها، ونصُّوا على اسمها بالذات، فقالوا: والذين عنهم نُقلت اللغة العربية، وبهم اقتدي، وعنهم أخذ اللسان العربي، ومن بين قبائل العرب هم: قيس، تميم، أسد، فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف..ثم هذيل وبعض كنانة، وبعض الطائيين، ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم).

 

 

إقرا أيضا ; مش هيك شهوة القديسين يا نيشان.؟

 

 

 هنا، يتوجب علينا أن نعرِّف القارئ العزيز على علم النحو العربي(هو علم تعرف به حركة الحرف الأخير من الكلمة باختلاف موضعها من الجملة ـ فتح وكسر وضم وسكون، ويلحق به المثنى وجمع المذكر السالم والأسماء الخمسة ـ الستة ـ والأفعال الخمسة) ويشكل مع علم الصرف قواعد لغتنا العربية. 

 

 

إن الكثير منا عندما يقرأ "النص" همه القواعد النحوية، ولا يلتفت إلى المعنى، أو يلتفت بالدرجة الثانية، جل غايته واهتمامه مراعاة الكلمة من حيث البناء، ومن حيث الشكل، بمعنى أن يقرأ القراءة الصحيحة ومن ثم يريد أن يفهم المعنى من خلال التطويع، ليخضعه للقواعد النحوية الشكلية، فاللغة العربية بتعبير "زكريا أوزون ـ جناية سيبويه" هي كائن حي، ومعنى كائن حي أنها تعيش وتموت وتتطور وتتدهور، والتدهور هو ما حدث للغتنا العربية ـ للاسف!. والإنسان هو الذي يحيي اللغة وهو الذي يميتها وليس العكس، والعلاقة بين الإثنين ـ الإنسان واللغة ـ علاقة حية متطورة، فكم من مفردات توقف استعمالها في لغتنا العربية ـ فعل (ألت) مثلاً في القرآن الكريم ـ (ولا يلتكم أعمالكم شيئاً) سورة الحجرات / آية 14.

 

 

 فكم من مفردات ولدت وعاشت وترعرعت وهي أكثر من أن تحصى. إن العلاقة الحية بين الإنسان واللغة تستند إلى الفهم والعقل، وعليه، فهي تقوم على العقلانية والمنطق ولا يمكن بدونهما أن تقوم قائمة للغة بين الناس. 

 

 

 إنَّ اللافت في قريش وما ذكره علماء اللغة والمؤرخون من أنَّ لغة قريش لم تكن واضحة، ولهذا لم يبرز فيها شعراء، ولو واحداً!. لوجود أعداد كبيرة من العبيد في مكة، وقريش الكافرة فرضت لغتها على جميع العرب، وبعد إسلامها تبعثرت ولم يقدروا على جمعها بسبب وجود العبيد في مكة. 

 


ختاماً، هنا أريد أن ألفت النظر إلى كلمة (الأميّ) التي ذكرت في القرآن الكريم، وحتى في الروايات والأخبار، فنرى كيف فسَّرها العلماء وبلبلت أفكارهم وجعلتهم في أكثر من رأي، فتارةً نرى رأياً يذهب إلى عدم القراءة والكتابة، وأخر يذهب إلى "أمِّ القرى" نسبة إلى مكة المكرَّمة، وثالثاً يذهب إلى معنى "الأميّ" بحسب "اللغة" تأتي بمعنى "الجهل بوجود عدم امتلاك كتاب منزل من السماء"، لا ندري على ماذا يدل هذا الاختلاف في اللغة العربية واللغة القرشية، وماذا تعني "أميَّة العرب" ثم أليس التساؤل هنا مشروعاً؟ أنه كيف كتب العرب بجميع اللغات وبكل الخطوط سوى لغتهم العربية الفصيحة التي هي أصل الأدب والشعر والنثر؟؟. ثم كيف نفسِّر "الأميَّة" بمعنى الجهل بالقراءة والكتابة، أم أنَّ هناك أسباباً أخرى يجهلها العرب حول لغتهم.... لربما يجيبنا أحد.؟!!.