كان حريٌّ بنا أن لا نتفاجأ باضمحلال آخر مظهر من مظاهر الدولة اللبنانية المتهالكة، عندما أقدم المحقّق العدلي القاضي فادي صوان  بالإدّعاء على رئيس الحكومة المستقيلة حسان دياب وثلاثة وزراء سابقين بجرم التقصير والإهمال والتّسبّب بانفجار مرفأ بيروت في الرابع من شهر آب الماضي، كان حريّ بنا أن لا نتفاجأ عندما قامت الإحتجاجات والإعتراضات بوجه القاضي فادي صوان من قِبل الأوساط السياسية الطائفية والمذهبية، ومن ما تبقّى من "مسؤولين" تخلّوا عن مسؤولياتهم منذ أكثر من ربع قرنٍ من الزمن، وانصرفوا إلى نهب المال العام والاثراء غير المشروع وصرف النفوذ وتكديس الثروات، كان حريّ بنا أن لا نتفاجأ لأنّ الدولة اللبنانية كانت قد بدأت بالتّخلّي عن سيادتها الوطنية وحقّها بحصرية امتلاكها للسلاح الشرعي وقرارات السلم والحرب، منذ توقيعها على اتفاق القاهرة عام ١٩٦٩، والذي منح منظمة التحرير الفلسطينية أرضاً مُستباحة في الجنوب اللبناني للعمل الفدائي الفلسطيني المُسلّح، ممّا مهّد بعد ذلك إلى اندلاع الحرب الأهلية عام ١٩٧٥ التي استمرت اكثر من خمسة عشر عاماً، ووجدت الدولة اللبنانية نفسها خلال تلك الحرب حائرةً مُشتّتة أمام الجسم الغريب المُقحم على المجتمع إقحاماً، والأغرب من اضطراب الدولة اللبنانية وانقسام التوجهات السياسية والعسكرية والأمنية لكبار المسؤولين، أنّ السلاح الفلسطيني فاقم استفحال الأزمة اللبنانية، فقد تعمّدت منظمة التحرير الفلسطينية فصل المجتمع اللبناني عن الدولة، والضياع في البحث عن هويّة للمجتمع مُباينة للدولة وخلافها، فاستباحت المجتمع اللبناني وغرست أجهزتها فيه، وتسلّطت على بعض جماعاته ومؤسساته، وأملت على بعض قواه السياسية قراراتها، كما يقول وضاح شرارة في كتابه( أحوال أهل الغيبة، ص٥٩)، واقتنع قسمٌ كبيرٌ من اللبنانيين في البلد الذي انشطر منطقتين: غربية وشرقية، بأنّ الدولة قشرة خارجية، مُصطنعة، وأنّها نافلة يمكن إطراحها من غير ضررٍ كبير، وكان المُثقّفون سبّاقين إلى هذا الإطراح وإلى وصم تاريخ الدولة اللبنانية كلّه بالظلم والقسر والعدوان، وترافق هذا الطور مع تدمير ما تبقّى من الدولة على يد الإحتلال الإسرائيلي، فطفت على السطح عبارات انكفاء الجماعات على نفسها، وتوزّعت إلى هويّاتٍ حائرة لا هيكل لها ولا قوام إلاّ ما يفصل بينها وبين بعضها الأقرب فالأقرب.

 

 

إقرأ أيضا : تبّاً لزعاماتكم ومقاماتكم وحصاناتكم، ومرحى للقاضي صوّان.

 

 


كان حريٌّ بنا أن لا نتفاجأ باضمحلال الدولة اللبنانية والإيذان بزوالها، منذ أن أعمل اللواء الراحل غازي كنعان( رئيس جهاز الأمن والإستطلاع في القوات السورية في لبنان) مِبضعَهُ في مسام المجتمع اللبناني السياسي والطائفي والعسكري والأمني، فشرذم وفتّت وقسّم الجماعات والطوائف والمنظمات والفصائل والأحزاب، فبدأ بالتّضييق على الفلسطينيين المخالفين لتوجّهاته، وحاول استمالة اللبنانيين النافذين، فشاعت أعمال الاغتيال الجماعي بواسطة السيارات المُفخّخة والإغتيالات المواربة، وولغت الإستخبارات الإسرائيليّة في تلك الحمأة، وأرادت السياسة السورية الأمنية والمحلية إضعاف القوى اليسارية والوطنية، وإنهاك القوى الفلسطينية، والإحتماء بشرعية لبنانية وطنية وأهلية محلّيا، وتجلّت عبقرية اللواء كنعان بجرّ جماعات شيعية متعاظمة في الجنوب وبيروت والبقاع إلى مقاتلة شِلل أو جماعات فلسطينية تتصدّرها "فتح"، ومقاتلة جماعات لبنانية تحتمي بها أبرزها الشيوعيون المحلّيون، فذرت حروب أهلية فرعية في إطار الحرب الأهلية، وكانت محصلة الدهاء السياسي والطائفي والعسكري والأمني السوري تصديع اللبنانيين أهلاً وطوائف، وشراذم طوائف، وشطور أحزابٍ وأجنحة (كما يقول وضاح شرارة في كتابه أحوال أهل الغيبة، ص٢١٦)، فاستعدى الجماعات والعصبيات قديمها وجديدها، رميمها ومُبتعثها، بعضها على بعض، فلم تبقَ جماعة لم تنقسم على نفسها تدريجاً وبطيئاً، فانقسم القوميون السوريون حزبين مُسلّحين، وانقسمت القوات اللبنانية حزبين، قبل أن ينقسم شطرها الأكبر أحزاباً، وانقسمت الكتائب،  وانقسم المسلمون السّنة، وانقسم "أهل" طرابلس،  وأقام الشيعة على ثنائية مُركّبة وعجيبة، وتوحّدوا على "مقاومة" هي سُلّمهم إلى حكم لبنان فيما بعد، وإلى التّسلّط على ريعه المحدود، وأنشب الانقسام في الإنقسامات نفسها والشطور نفسها بلا استثناء: فقام إيلي حبيقة على سمير جعجع، وقام جورج سعادة على جعجع، وفؤاد مالك على جعجع، وسُجن جعجع، واغتيل حبيقة، واقتتل حزب الله( ومحمد حسين فضل الله) وأمل، وانشقّت أمل كُتلاً، وخسرت عسكرها في قتال الفلسطينيين.

 

 


في هذا البحر المتلاطم على أرض لبنان الكبير ومساحته المحدودة، اجتاحت إيران لبنان"العربي"، واستثمرت حدوده مع إسرائيل، وانتهز اللواء كنعان هذه "الهدية" المجانية، فأرجع القوات السورية إلى لبنان( بعد خروجها تحت الاجتياح الإسرائيلي عام ١٩٨٢) بواسطة اقتتال درزي-شيعي، وشيعي- شيعي، وشيعي- شيوعي، وسُنّي-شيعي، وفي حين كان كنعان يقوم بافتعال مسرحيات بهلوانية، جمع أطراف الإتفاق الثلاثي الذي شقّ القوات اللبنانية والمسيحيين عموماً، ورعى مع الحرس الثوري الإيراني قوة عسكرية وأمنية مهيمنة، تبلورت تحت مُسمّى "المقاومة الإسلامية" وذراعها حزب الله، المنظمة السياسية والعسكرية والإيديولوجية،  ونواة طبقة حاكمة مذهبية، حتى أطلق أحد الكتاب السوريين( عبدالله الأحمد ) على حزب الله: سرايا غازي كنعان، هذه " السرايا" لن تلبث أن شقّت الدولة اللبنانية بصيغتها الجديدة بعد اتفاق الطائف، وأبطلت شرعيتها وتجانسها، وأكملت "فضائلها على اللبنانيين بتحالفٍ أقلّويٍّ طائفي مع التيار الوطني الحر بزعامة الجنرال عون، ومالبثت أن حملته إلى سدة الرئاسة الأولى، فسقط لبنان بين كامشتي "المقاومة والممانعة" وتيار الوزير جبران باسيل الغارق في الفساد، حتى انهارت الدولة ومؤسساتها المختلفة، وبات العجز شاملاً كافة نواحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والحياتية، وتعجبون كيف يتمرّد من يفترض بهم أن يحافظوا على هيبة الدولة وهيبة القضاء على القاضي صوان؟!