توقف البعض عند الموقف التصعيدي الاخير لـ«القوات اللبنانية» إزاء انفجار المرفأ، فهي التي تدرس في العادة خطواتها وتتوخّى القانونية في مواقفها وتتجنّب التسرّع في اتخاذها، وتستمزج آراء كافة اعضاء تكتل «الجمهورية القوية» فيها، وتستطلع آراء «جيش» من المستشارين والحقوقيين، فيما يُعرف عن رئيسها الدكتور سمير جعجع انّه يخوض نقاشات معمقة وطويلة، متمعناً بكل تلك الآراء قبل اتخاذ القرار النهائي.

إلّا أنّ تصريح جعجع التصعيدي إزاء انفجار المرفأ جاء متقدماً، حيث دعا الى احالة الجريمة الى محكمة الجنايات الدولية، بعد التأخّر عن اعلان نتائج التحقيقات الأولية للسلطة القضائية اللبنانية.

 

وترى مصادر حقوقية، انّ طرح جعجع مستحيل، وتدرجه في خانة التصعيد السياسي. إذ من غير الممكن تحقيقه عملياً، في رأيها، وتقول انّه يحتاج الى تعمّق ودراسة اكثر.


 
 

وفي هذا السياق، يوضح الاستاذ والمحاضر في القانون الدولي والدستوري الدكتور رزق زغيب لـ»الجمهورية»، أنّ «المحكمة الجنائية الدولية التي لديها اختصاصان شخصي ووظيفي، لناحية الوظيفي، هي تنظر في قضايا الحرب والجرائم ضدّ الانسانية وجرائم الإبادة والعدوان، وبالتالي عملياً، يتمّ احالة الملف بما له وعليه الى المحكمة ليتحقق اذا كان الفعل مقصوداً في المرفأ، وبالتالي يترتب عنه ربما جريمة ضدّ الانسانية في حال تحققت شروطها وثبت انّ الامر كان مقصوداً»…

 

الّا انّ الشرط الأهم، بحسب زغيب، هو الاختصاص الشخصي، بمعنى انّه لكي تكون المحكمة مختصة يجب ان يكون لبنان عضواً في نظام روما الذي انشأ المحكمة الجنائية الدولية، ومجلس الامن الدولي هو الذي يقرّر احالة القضية الى هذه المحكمة. بما معناه، انّ لبنان يجب أولاً ان يفكر بالانتساب اليها، فيما هناك محاذير دون ذلك، علماً أنّ الامر عُرض على لبنان أكثر من مرة، نتيجة حروبه المستمرة والتعدّيات الإسرائيلية، لكنّه حاذر الانتساب لأنّ الامر يرتب نتائج لمصلحته وعليه. كما انّ الولايات المتحدة الاميركية تشدّد على الدول التي ترتبط معها بعلاقات وثيقة بعدم الانتساب الى هذه المحكمة لأنّها ضدها في المطلق، لذلك لم تنتسب اليها مخافة أن يُلاحق الجنود الاميركيون المنتشرون حول العالم، اذا ارتكب احدهم اي تعدٍ او جرم يُصنّف في خانة الجرائم الإنسانية، ويُدرج ضمن جرائم الحرب، واحالته الى هذه المحكمة. وبالتالي، فإنّ لبنان لم ينتسب الى هذه المحكمة، مع العلم أنّ البلدان العربية المنتسبة اليها قليلة وهي: الاردن، تونس، جيبوتي، جزر القمر وفلسطين.

 

أما بالنسبة الى الطلب من مجلس الامن احالة الجريمة الى محكمة الجنايات الدولية، فلفت زغيب الى انّه متاح امام الضحايا او المتضررين من جنسيات اجنبية والتي تنتسب دولها الى نظام روما، ولكن الاهم، في رأيه، هو ان تقتنع تلك الدول بأنّ هناك عنصراً جرمياً في الموضوع، فيما يبدو حتى اللحظة، وبحسب مجريات التحقيق، انّه يتجّه الى انّ إبداء عنصرالاهمال، وبالتالي اذا ثبت هذا العنصر الذي هو جرم بطبيعة الحال، فإنّه يزيل احتمالات الحالات المختصة، والتي يمكن احالتها الى وظائف محكمة الجنايات الدولية والتي ترتكز الى النيّة الجرمية.

 

مالك: الطرح سياسي

بدوره، يرى الخبير الدستوري المحامي سعيد مالك، أنّ الملف يحتاج الى تعمّق ودرس أكثر، خصوصاً وانّ لبنان ليس عضواً في المحكمة الجنائية الدولية التي تتمثل بمعاهدة روما، كما انّه لم يوقّع نظامها، وبالتالي هناك صعوبة، إن لم نقل استحالة، في اللجوء الى المحكمة الجنائية الدولية، فضلاً عن أنّ هذه المحكمة تنظر في دعاوى محدّدة، والتي لها علاقة بجرائم الابادة والجرائم الانسانية وجرائم الحرب والاعتداء، فيما جريمة المرفأ هي في المبدأ ناتجة من اهمال وتقصير وتجاوز للصلاحيات أو عدم إتمام الواجبات المترتبة على المولجين متابعة مهماتهم، اي لا تتصف بالجريمة ضد الانسانية التي لها وصف مغاير تماماً.


 

ويصوِّب مالك طرح جعجع معتبراً انّه «طرحٌ سياسي بامتياز اكثر مما هو طرح واقعي. فالذهاب الى المحكمة الجنائية الدولية هو استحالة لاسباب عدة». ولكنه يلفت في المقابل الى «انّ الخيار الممكن في هذه الحال هو الذهاب في اتجاه مجلس الامن للمطالبة بالتحقيق الدولي، اي الضغط لتعيين لجنة تحقيق دولية، وعلى ضوء تحقيق هذه اللجنة يمكن المطالبة بإنشاء محكمة خاصة للبنان، كما حصل إبان اغتيال الرئيس رفيق الحريري».

 

«القوات»: لن نتخلّى

بدورها أوضحت مصادر «القوات اللبنانية» لـ»الجمهورية» معنى طرحها واسبابه، فلفتت الى شقين، الاول يتعلق بالاستياء الشعبي الكبير مما آلت اليه الاوضاع، اذ منذ الرابع من آب حتى اليوم لم يعرف اي لبناني كيف حصل هذا الانفجار وظروفه وخلفياته، خصوصا وأنّه دمّر نصف مدينة بيروت وادّى الى ما ادّى من كوارث»، متسائلة :»هل يُعقل ان لا يكون لهذا الانفجار حتى اللحظة رواية واضحة المعالم حول ما حصل؟».

 

وانطلاقاً من هذا الواقع، عاودت «القوات اللبنانية» المطالبة بتحقيق دولي لأنها استنتجت انّ التحقيق اللبناني لن يصل الى نتيجة للاعتبارات المعلومة وبفعل غياب الدولة وعدم تمكن القضاء من القيام بمهماته المطلوبة، ولذلك تُكرّر مصادر «القوات» أنّها «ليس فقط «تلوّح» بل تدرس السبل التي من الممكن الذهاب فيها الى القضاء الدولي».


 
 

في المقابل اقرّت «القوات» انّ «هناك آراء وتوجهات متعددة ومختلفة حول هذا الطرح، منها ما يقول انّه ممكن، ومنها ما تعتبره غير ممكن.

 

إلّا أنّ «القوات اللبنانية»، وبحسب مصادرها، «تدرس جدّياً هذا الامر، وهناك لجنة مؤلفة من قانونيين يتولون متابعته، ولن تترك هذا الملف، بعدما تبين ان ليس هناك اي رواية متكاملة حول ما حصل، فيما كان من المفترض أن تُقدّم هذه الرواية في الاسبوع الاول، لو كانت التحقيقات جدّية».

 

وتؤكّد مصادر «القوات اللبنانية» انّها «لن تقبل بأي لفلفة لهذا الملف، ولن تتخلّى عن متابعة هذه الجريمة التي ابادت نصف مدينة بيروت، ولن تقبل بأي رواية منتقصة، لذلك هي تقول وتلوّح وتهدّد وتدرس كل الامكانات الممكنة للوصول الى الحقيقة والمحاسبة».

 

وتستغرب مصادر «القوات»، «كيف يمكن لانفجار كارثي حرّك المجتمع الدولي وحرّك الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون ودفعه الى زيارة لبنان، لا يحرّك الدولة وقضاءها حتى الساعة. ولذلك تنطلق «القوات» من هذه العناصر مجتمعة لتعلن أنّ هذا الانفجار يستحق فعلاً ان تتحرك في شأنه، وان يُرفع الى محكمة دولية تتولى التحقيق فيه، طالما انّ القضاء اللبناني غير قادر على اخبار اللبنانيين عن حقيقة الانفجار الذي دمّر نصف مدينتهم بيروت».