عاوَدت باريس ضغوطها على الاطراف السياسية اللبنانية لدفعها الى تقديم تنازلات تسمح بتأمين ولادة حكومة قريبة تسبق زيارة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الثالثة للبنان في غضون 4 أشهر. تُدرك فرنسا جيداً التداخل الحاصِل على ساحة لبنان بين الازمة السياسية الحادة والخلفيات الاقليمية المعقدة، ذلك انّ ماكرون الذي حرق أصابعه مع سقوط مبادرته، قرأ جيداً في العوائق غير المنظورة.

ولكن رغم المصاعب الداخلية التي تمر بها بلاده، الّا انّ ماكرون لا يفكر في رفع الراية البيضاء والانسحاب. صحيح انه شعر في احدى الفترات انه بات ضيفاً ثقيلاً لا يرغب به البعض، أو ربما يفضّل التعاطي مع الاميركيين الذين يملكون قدرة الشراء والبيع، الّا انه لن يتراجع وله أسبابه في ذلك، فالكلام الذي قاله وزير الخارجية الايرانية محمد جواد ظريف في موسكو «ماذا يفعل ماكرون في بيروت؟» ليس في حاجةٍ لأيّ تفسير.

 

لكنّ باريس، التي راهنت ضمناً على وصول الديموقراطيين الى البيت الابيض وإنجاز تفاهم مع الادارة الاميركية المقبلة حول دور فرنسي فاعل في الشرق الاوسط، شعرت أنّ الظروف باتت افضل لمعاودة تحركها في اتجاه لبنان آخر ساعات نفوذها في الشرق الاوسط.


 
 

ماكرون يُدرك انّ دخوله المباشر على الملف اللبناني أكسَبه نقاطاً في الداخل الفرنسي، وهو يدرك ايضاً انّ نزاعه العنيف مع تركيا الذي وصل الى الاراضي الفرنسية يلزمه بالتشبّث بالموقع اللبناني.

 

كذلك، فإنّ حاجة ايران الى دور اوروبي في المفاوضات المنتظرة مع الاميركيين حول الاتفاق النووي، يعطي باريس ورقة في يدها، خصوصاً انّ تركيا التي عاوَدت تواصلها مع اسرائيل، باتت في ناغورنو كاراباخ، أي عند الحدود الشمالية لإيران.

 

من هنا سيسعى ماكرون للاستفادة من الاخطاء التي ارتكبها سابقاً، ويعاود تقدّمه في اتجاه لبنان. لكن كما انّ ايران في حاجة الى هامش فرنسي، فإنّ باريس في حاجة أيضاً لطهران، في إطار محاربتها المجموعات الاسلامية المتطرفة على الاراضي الفرنسية.

 

أضف الى ذلك، انّ السعي الى إنتاج طبقة سياسية جديدة في لبنان هو مسألة في غاية التعقيد والحذر، ولا بد من تأمين تفاهم مسبق حولها، خصوصاً ما بين واشنطن وطهران. وخلال الاسابيع الماضية ساد نقاش واسع طاول أطرافاً اوروبية عدة حول الواقع الخطير للبنان. فمستوى الانهيار الحاصل، معطوفاً على لامبالاة الطبقة السياسية، إنما يدفع لبنان الى الموت الحتمي.

 

في اوروبا هناك اقتناع بأنّ انفجار 4 آب كشفَ في وضوح جوانب الفساد والاهمال والاهتراء التي وصلت اليها الدولة اللبنانية، والأهم انّ السلطة اللبنانية هي السبب الفعلي للكارثة التي حصلت. وتتفق الاطراف الاوروبية مع الاقتناع الفرنسي بأنه وعلى مدى عقود لم تؤدّ المساعدات المرسلة الى لبنان الى أي تقدّم فِعليّ للدولة اللبنانية، لا بل على العكس فإنّ الطبقة السياسية الفاسدة جعلت من هذه المساعدات سبيلاً لتمويل بقائها وترسيم جذورها.

 

ومعه، كرّر الفرنسيون ما باتوا على اقتناعٍ مشترك فيه مع الاميركيين، وهو أنه اذا كان البعض يعتقد انّ التغيير يمكن ان يأتي من الطبقة السياسية الحالية، فهو كَمن يضرب رأسه بجدار سميك. لذلك لا يجب منح السلطة اللبنانية أي مساعدات قبل احداث الاصلاحات المطلوبة.

 

في الواقع تراقب الاوساط الديبلوماسية النزاع العنيف الذي بدأ يصيب اطراف الطبقة السياسية الحاكمة، في مشهد يُشبه الى حدٍ بعيد ما يحصل بين اطراف العصابات عندما يشتدّ الخناق حولهم. فعندما تبدأ حرب التصفيات لاعتقاد كلّ طرف انه اذا ما أنهى خصومه، فهو قد يكون قادراً على النفاذ بجلده.


 
 

فخلال الايام الماضية فتحت فجأة ملفات قضائية، صحيح أنه يجب فتح كل ملفات الفساد، لكنّ السؤال لماذا لم يحصل ذلك قبل الآن اذا كان الهدف فعلاً محاسبة الفاسدين؟

 

الأرجَح أنّ ما يحصل هو تصفية سياسية تحت عنوان محاربة الفساد. ففي ملف الضباط نافذة مفتوحة في اتجاه «بنك التمويل» الذي يخضع لرقابة مصرف لبنان المباشرة ولنفوذ رئيس مجلس النواب نبيه بري في آن معاً، ولا حاجة للشرح في أنّ ملف وزارة المهجرين يُطاوِل وليد جنبلاط.

 

ولكن الاهم هي جلسة لجنة الاشغال والطاقة والمياه النيابية، التي كان من المقرر أن تعقد اليوم في مجلس النواب، وهذه الجلسة التي يُعمَل لتأمين اكبر حشد نيابي لها سيجري خلالها فتح ملف الكهرباء والاستماع الى افادة رئيس دائرة المناقصات جان العلية الذي كان قد عقد مؤتمراً صحافياً في وقت سابق، وقدّم مستندات تشير الى فساد في ملف تلزيم بواخر الكهرباء.

 

ومن المتوقع ان تكون هذه الجلسة صاخبة، وان تخرج بنتيجتها توصيات يجري رفعها الى رئيس المجلس النيابي، وهو ما سيفتح لاحقاً أبواب التحقيق القضائي. مع الاشارة الى انّ رئيس اللجنة هو نائب تيار»المستقبل» نزيه نجم.

 

وفي موازاة ذلك تتفاقم حدة الكارثة الاقتصادية والمالية والاجتماعية، ذلك انّ اعادة النظر في موضوع الدعم والذي تأخر كثيراً واستنزَفَ ما تبقّى من اموال الخزينة، الّا أنّ حصول هذا الالغاء من دون ضمانات لحماية الفئات الفقيرة سيؤدي حكماً الى كارثة اجتماعية، وفوضى في الشارع وسقوط دماء. أضف الى ذلك الارقام المرتفعة للسرقات والاعمال المخلة بالقانون، والتي يشارَك في كثير منها نازحون سوريون. مع الاشارة ايضاً الى اّن نسبة الفقر في المخيمات الفلسطينية اصبحت 90 % بعد ان كانت 65 %، ونسبة البطالة ارتفعت الى 85 % بعد ان كانت 56 %.

 

وجاءت دعوة الاتحاد العمالي العام الى التحرك والتظاهر كمؤشّر على ما يمكن ان يحصل، ولو انها تخفي في طيّاتها مساندة للاشتباك السياسي الحاصل على خلفية النزاع حول الملفات القضائية.

 

وبخلاف القراءة المتسرّعة حول ليونة في الملف الحكومي، فإنّ التراجع الذي نفّذه الرئيس المكلف سعد الحريري، حول إعطاء حقيبة الطاقة لرئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، له تفسيره.

 

ففي الواقع آثَرَ الحريري إبعاد نفسه عن هذه الحقيبة التي يصّر الفرنسيون على أن تكون خارج نفوذ باسيل، لكي ينأى بنفسه ويترك المواجهة مباشرة بين باسيل والفرنسيين. ويهمس ديبلوماسيون اوروبيون أنّ الرئيس الفرنسي سمعَ لوماً بسبب تراجعه عن اجراء انتخابات نيابية مبكرة، بعد تأمين دعم دولي واسع لها.


 
 

وفي المقابل جاء من يُبرّر انّ الوقت لا يعمل ابداً لمصلحة الطبقة السياسية اللبنانية، لا بل على العكس، فالكوارث التي تلوح ستُعَمّق من خسارة قوى السلطة لا العكس، وأنه كلما تقدمنا الى الامام كلما ترسّخ الاقتناع بالتغيير الشامل لدى اللبنانيين، وانّ النتائج المدهشة للانتخابات الجامعية دليل واضح على ذلك.

 

وتضيف هذه الاوساط انه صحيح أنّ بعض أطراف السلطة سيسعى لتأجيل الانتخابات النيابية المقبلة، لكنه بذلك يكون قد اقترف الخطأ القاتل، لأنّ الانتخابات ستحصل ولو برعاية أو ادارة دولية لتؤسس لحقبة جديدة. طبعاً من المفترض ان تكون الظروف الاقليمية اصبحت مساعدة لذلك، لا عامل عرقلة كما هو الواقع اليوم.