ليس واضحاً أي سيناريوهات ستُحضَّر للبلد في الأشهر المقبلة. لكن المؤكّد، في ظلِّ الفراغ والفشل والجوع، هو أنّ منسوب الاحتقان سيرتفع إلى حدود غير مسبوقة في لبنان، منذ 100 عام. وإذا لم يتبرَّع أحد بتنفيس هذا الاحتقان، فحتماً سيقع الانفجار. ولكن، أين؟ على أي جبهة؟ وما هي طبيعته ونتائجه؟

في العادة، يقود الإختناق الاقتصادي إلى اختناق اجتماعي أيضاً. وعند هذه النقطة يصبح الاستقرار في خطر حقيقي. وعادةً، تكون التداعيات طبقية أو سياسية أو عرقية أو طائفية. ولذلك، يكون التأزُّم الاقتصادي- الاجتماعي أشدَّ خَطراً على المجتمعات المُعرَّضة للتصادم أو التفكّك، ومنها مثلاً مجتمعات الشرق الأوسط الغارقة كلها في صراعاتها، ومنها لبنان.

 

لبنان اليوم على شفير أزمة تُهدِّد مصيره. وما يحاول وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان قوله منذ أشهر، عن أنّ لبنان معرَّض للتفكُّك والتحلُّل إذا لم تُعالَج أزماته الحالية، يقتضي أخذه بكثير من الجدّية أكثر من أي يوم مضى. وهذه النقطة لم يصل إليها لبنان دفعة واحدة. فالسلطة التي تحكَّمت به، منذ الطائف، هيَّأت له كل الظروف ليصبح دولة فاشلة لا تعيش إلّا بالوصاية.


 
 

آنذاك، كانت تلك مصلحة السوريين. ولكن أيضاً، عملت القوى الخارجية كلها على تسهيل المَهمَّة لهم، وباركت كل الموبقات التي جهَّزت البلد للانهيار: الاستقواء على الدستور والقوانين والمؤسسات والأجهزة، وبناء دويلات داخل الدولة، وتثبيت أسوأ أعراف وممارسات لأسوأ طبقةٍ مستزلِمةٍ وطائفيةٍ وفاسدة، تمّ تركيبها على أنقاض الطبقة التقليدية (الفاسدة أيضاً).

 

تحت الوصاية السورية، كان عقلُ الفساد أكثر ذكاء. فالنهب يجب ألّا يؤدي إلى إفراغ الدولة ومواردها… وإلّا فمن أين ننهب إذا جَفّت ينابيع المال؟ وكانت عمليات النهب منتقاة ومنظَّمة. وأما الورثة، بعد العام 2005، فتكالبوا على مَوارد الدولة حتى جَفَّت تماماً. وفي أي حال، ثمة مَن يعتقد أنّ شبكة الفساد بين لبنان وسوريا بقيت حيَّة وتُرزق حتى اليوم.

 

يسأل البعض: هل أولئك الممسكون بالسلطة، الذين نهبوا البلد، يمارسون «الفساد العادي» أم إنّ فسادهم مدروسٌ وهادفٌ، من أجل إيصال البلد إلى الحضيض فيستسلم لمشيئات القوى الخارجية؟ وتالياً، هل تمّ تسليم البلد لطبقةٍ سياسية يُقودها بعض العُملاء، وفي خدمتهم يتحرَّك أغبياء ومتنفِّعون؟

 

أياً يكن، فالبلد اليوم وصل إلى النقطة التي لطالما خاف المحللون من بلوغها: التفكُّك أو الاستسلام للإرادات الخارجية؟ وهذا السؤال يستتبع التأمّل جيداً في واقع الانهيار الاقتصادي والمالي والنقدي وانهيار المؤسسات الرسمية والخاصة والمرافق والأجهزة وسقوطها في شكل مريع. واليوم، بدأت تنمو خشية حقيقية من وصول الناس إلى الجوع، بالمعنى الحرفي.

 

وتوازياً، بدأت تظهر مخاوف من أن يؤدي الجوع إلى نشوء حال فيها مزيج من الغضب والإحباط والضياع والفوضى والرغبة في الانتقام. وعبَّر بعض النقابيين عن قلقهم من أنَّ اللبنانيين، تحت تأثير هذه الحال، «قد يقتلون بعضَهم بعضاً».

 

ربما يعتقد كثيرون بأنّ هذا القلق فيه الكثير من المبالغة. ولكن، للتنبيه: أرقام قوى الأمن الداخلي أشارت إلى نمو ملحوظ لنسب الجريمة في العام الحالي عن معدلاتها في الأعوام السابقة. وقد يؤدي الجوع وما يرافقه من فلتان أمني إلى بروز مجموعات مسلحة أو ميليشيات، تأخذ على عاتقها «حماية» الأحياء والزواريب والمناطق. ومن هنا يصبح ممكناً تَخيُّل التتمة.


 
 

ولكن، يجدر أيضاً التفكير في الجُزُر والخلايا الأمنية التي لا حصر لها من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب فالعاصمة والبقاع. وإذا شاءت مصالح بعض القوى الخارجية أن تلعب بالنار في لبنان، فطبيعي أن تدخل هذه الجُزُر والخلايا على خط الفتنة. وهذا ما حصل طويلاً خلال الحرب الأهلية، تحت عنوان «الطابور الخامس».

 

إنّ أي احتكاك أمني، بين الجائعين في لبنان، سيكون عنيفاً جداً. وسيبدأ في مكان ما وتحت عناوين اجتماعية، ولكنه قد يتحوّل إلى عناوين أخرى. وللتذكير، إنّ حرب العام 1975 الشرسة بوجوهها الطائفية، والتي لم تنتهِ مفاعيلها بعد، بدأت بدفعٍ من عنوان إصلاحي هو «البرنامج المرحلي» لـ»الحركة الوطنية». وآنذاك، كان هناك لاعب أمني واحد يتحرك في الداخل هو الفلسطيني. وأما اليوم، فلا حصرَ للاعبين المكشوفين والمستترين. فأي مغامرة قد ينفتح عليها لبنان إذا استمرّ الاحتقان الاجتماعي؟

 

وخارج كل ذلك، هناك عامل المواجهة مع إسرائيل، في الداخل وعلى الحدود. وللتذكير أيضاً، إنّ ضربات إسرائيلية للبنى التحتية في حرب تموز 2006 أبقت لبنان «على الأرض» لسنوات. وآنذاك كان في قوته الاقتصادية والمالية. فهل يتصوّر أحد أي كارثة ستقع إذا تكرّر السيناريو في بيروت المدمّرة جزئياً والتي صار فيها «شبه مرفأ»؟

 

يخشى بعض المحللين أن يكون انهيار لبنان مدروساً لفرض الخيارات عليه. ولكن، المخزي هو أنّ أركان السلطة والسياسة فيه يشاركون في لعبة الانهيار علناً ويتمادون، ويرفضون أي عملية إنقاذ يعرضها الفرنسي أو سواه. وتالياً، إنّ هؤلاء يَسوقون البلد، عمداً أو بغباء أو تجاهل، إلى كارثة الحرب داخلياً أو خارجياً ويدفعونه إلى سيناريوهات التفكّك.

 

وأفضل ضمانة لمواجهة الفتنة هو صورة 17 تشرين الأول 2019. والتصدّي لهذه الصورة بخرقها وتمزيق وحدتها ولإفشالها بواسطة زعران الطوائف والزعماء والمحاسيب هو الجريمة التي تفتح طريق الفتنة، عاجلاً أو آجلاً.

 

في المرحلة الآتية، سيجوع الناس، وسيكون أمامهم إما ثورة الجياع، وإما فتنة الطوائف والزعماء. فأي رائحة ستفوح في الفضاء اللبناني الحزين إذا كان هناك مَن يُصرُّ على إجهاض الثورة؟