قال الله تعالى: سمّاعون للكذب أكّالون للسّحت (سورة المائدة، الآية ٤٢)، وسمّاعون للكذب، أي أنّ صناعتهم سماع الكذب، وها هنا فرقٌ شاسعٌ بين سامع الكذب والسمّاع له، فقد تسمع الكذب دون أن يلحق بك الإثم، أمّا السّماع ( على وزن فعّال للمبالغة) فهو الذي تعوّد الكذب في سبيل أكل السّحت، أي هو جاسوسٌ لغيره وعيناً له، ولعلّ أكل السّحت هو الذي يغري بسماع الكذب، والسّحت هو أكل مال الرشوة، واستطراداً أكل كلّ مالٍ حرام، وهذا ما لا يُعدُّ ولا يُحصى كشراء المناصب وعقد الصفقات المشبوهة وصرف النفوذ، ونهب المال العام والاثراء غير المشروع.

 

 


في لبنان تتواتر منذ أكثر من ربع قرنٍ من الزمن أخبار الفساد والرشاوى وأكل المال الحرام، واستفحلت في السنوات العشر الماضية حتى فاقت أرقامها عشرات مليارات الدولارات ، فعلى سبيل المثال لا الحصر، دخل  وزير الخارجية السابق  جبران باسيل في أحدى أسفاره السندبادية مطار هيثرو في لندن لمدة ساعة ليّبدّد عشرة ألاف دولار أمريكي من خزينة الدولة السائبة دون أن يرفّ له جفن أو يؤنّبه ضمير، سفيرة سابقة في لندن استأجرت فيلّا في أرقى الأحياء بسعماية ألف جنيه استرليني سنوياً، وبعد إحالتها للتقاعد بعد عشر سنوات تبيّن أنّ الفيلا ما زالت مستأجرة، أبنية داخل البلاد وخارجها تُستأجر بأرقامٍ خيالية، ولعلّ أشهرها المبنى الذي استأجرته شركة Teach بمبلغٍ ضخم، ولم تستعمله البتّة، فجاء وزيرٌ يعرف من أين تؤكل الكتف فاشتراه بمائة مليون دولار أمريكي، رئيس الجامعة اللبنانية تُرصد له أتعاب سفر لأكثر من جهة وبلد في نفس اليوم والشهر والسنة، ويوافق مجلس الوزراء على "العميانة"، ذلك أنّه لا من يقرأ ولا من يُدقّق، وفود رسمية وشبه رسمية في حركة دائمة، نفقاتها فوق التصورات، سيارات رسمية بالآلاف مُجهزة بعناصرها ومحروقاتها وصيانتها، موضوعة بتصرّف كبار المسؤولين والضباط والقضاة( وزوجاتهم وأبنائهم بالطبع)، جمعيات خيرية وهمية وشبه وهمية لأ تتوخّى الربح، تعود ميزانياتها لصالح النافذين والمسؤولين الحكوميين الذين أسندوا لزوجاتهم أو لخليلاتهم صرف هذه الميزانيات، نُوابٌ سابقون يتقاضون معاشات تقاعدية وخدمات صحيّة، شأنهم شأن سائر الموظفين المدنيين والعسكريين الذين أفنوا عمرهم في خدمة الدولة، ومعظم هؤلاء النواب المتقاعدين من أصحاب الأملاك والشركات والمؤسسات الإستثمارية، ويديرون مكاتب المحاماة والإستشارات، وجلّهم من أصحاب الملايين، ومع ذلك على اللبناني الصابر المحتسب أن يدفع ضريبة للحكومة كي تتمكن من إطعام أفواه الفاسدين وناهبي المال العام.

 

إقرأ أيضا : آلان عون لا عِلمَ له بموبقات التيار الوطني الحر وتراخي العهد القوي.

 


رحم الله السّلف الصالح، كان عمر بن الخطاب( الخليفة الثاني) إذا بعث عاملاً ( أي موظفاً رفيعاً أو والياً) يشترط عليه أربعاً: أن لا يركب البراذين( السيارات الفارهة)، ولا يلبس الرّقيق، ولا يأكل النّقى، ولا يتّخذ بوّاباً، وكان يقول لي على كلّ خائنٍ أمينان: الماء والطين، وقال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى ابن عمّه عبدالله بن عباس حين أخذ ما أخذ من بيت مال البصرة: إنّي أشركتك في أمانتي ولم يكن رجلٌ من أهل بيتي أوثق منك في نفسي، فلمّا رأيت الزمان على ابن عمّك قد كلِب، والعدو قد حرِب، قلبت لابن عمّك ظهر المِجنّ، واختطفت ما قدرت عليه من أموال الأمة اختطاف الذئب الأزلّ دامية المعزى، أمّا الخليفة عمر بن العزيز فكان يخاطب عُمّال السّوء: قاتلكم الله، أما تمشون بين القبور؟ أمّا المواطن فيصرخ اليوم في وجه حُكّامه كما قال الله تعالى: سمّاعون للكذب أكّالون للسّحت.