من يسأل نفسه لماذا السلطة «مرتاحة على وضعها» وترفض تقديم التنازلات على رغم الأزمة المالية الكارثية والفراغ الحكومي وانسداد الأفق السياسي والحصار الخارجي، فالجواب بسيط، لأنّه طالما انّ الاستقرار الأمني تحت السيطرة، وسياسة الدعم للمواد الأساسية مستمرة، فالسلطة بألف خير.

تدرك الأكثرية الحاكمة انّ مصير استمرارها في السلطة يتوقف على سياسة الدعم، التي في حال رُفعت، ستتفجّر ثورة غضب تقضي على الأخضر واليابس، لأنّ حجم الغلاء سيصل إلى مستويات يفقد معها المواطن القدرة على الاستمرارية، فينتفض غضباً وانتقاماً لوضعه، لاسيما أنّه لم يعد هناك فعلاً ما يخسره، كما انّه لن يقف متفرجاً على أولاده يموتون جوعاً، فيدخل البلد في فوضى ما بعدها فوضى، وفي وضع من هذا النوع سيتعذّر على القوى الأمنية السيطرة على الأرض التي ستهتز إلى حدّ الوقوع.


وفي حال لم ترفع الأكثرية الدعم بقرار ذاتي، وهي ليست بهذا الوارد، فإنّها تستطيع الصمود حتى نهاية العهد، ولن تتوانى عن استخدام جزء من الاحتياطي الإلزامي دفاعاً عن استمراريتها، وستناور تبريراً لعدم رفع الدعم، من خلال تصويره بالخطوة غير الشعبية التي ستُنهك الطبقات الفقيرة وحتى المتوسطة، وتعرِّض القوى الأمنية لضغوط شديدة، وتُفقد اللبنانيين الاستقرار الأوحد المتبقي لهم وهو الأمن.


 

فالسلاح الوحيد الذي ما زال بحوزة الأكثرية الحاكمة هو الدعم، ولن تسلِّم هذا السلاح، كونها ستكون كمن يتنازل عن العنصر الوحيد الذي يبقيها في السلطة وعلى قيد الحياة، ومن دونه لن تتمكن القوى الأمنية من توفير الدعم لهذه السلطة، ولذلك، الدعم لن يُرفع، لأنّ رفعه سيعيد تحريك الناس وبشكل يستحيل معه تطويقه وضبطه.


وتعتبر الأكثرية، انّ الناس اعتادت على نمط العيش الحالي الذي تبدّل مع الأزمة المالية، وترى انّ التدهور الذي حصل قد حصل، وبالتالي يمكن إبقاءه ضمن هذه الحدود لفترة طويلة، خصوصاً انّ المساعدات الإنسانية الدولية تشكّل ضخاً للسيولة على مستوى العملة الصعبة، ولا قرار بوقف هذه المساعدات، والدليل المؤتمر الدولي الأخير برعاية فرنسية، فضلاً عن انّ تحويلات المغتربين الثابتة تشكّل بدورها عاملاً مهماً على هذا المستوى، كما ان التدفُّق المرتقب للبنانيين من الخارج في فترة الأعياد يمكن ان يُنعش الأسواق نسبياً. وانطلاقاً من العوامل المذكورة، لا تخشى الأكثرية من انهيار شامل، بل تعتبر انّ الأمور ما زالت تحت السيطرة، وانّ الناس تأقلمت مع واقع الحال.


وهذا الستاتيكو في الوضع يمكن ان يستمر إلى نهاية العهد الحالي، في حال لم يطرأ اي تبدُّل على ثلاثة مستويات أساسية:

 

المستوى الأوّل، يتعلق برفع الدعم على المواد التي تدخل في سياق احتياجات المواطنين الأساسية: الدواء، الطحين والمحروقات. فإذا رُفع الدعم عن هذه المواد يعني دخول لبنان في غضون 48 ساعة في فوضى ما بعدها فوضى، ويصعب بعدها توقُّع كيفية تطور الأمور على أرض الواقع. ولكن الأكيد، انّ القوى الأمنية التي تشكّل حجر الزاوية لاستمرار الاستقرار الأمني، لن تتمكّن من ضبط انفعالات الناس وردود فعلها، كما انّ رفع الدعم سينعكس عليها مباشرة ويرتد على أدائها ودورها.


المستوى الثاني، يرتبط بالقوى السياسية، لا الحس الشعبي الذي لا يبدو انّه في وارد تجديد روح الانتفاضة سوى في حال رُفِع الدعم. ولكن هل القوى السياسية في وارد ان تدفع الأمور نحو مواجهة مع الأكثرية الحاكمة بمعزل عن رفع الدعم؟ لا يبدو انّ هذه القوى في هذا الوارد، لا سيما انّها ما زالت تتجنّب توسُّل الشارع، وتميِّز بين موقفها الداعي إلى رفع الدعم، على غرار «القوات اللبنانية» و»الحزب التقدمي الإشتراكي»، كي لا يُهدر في التهريب على المستوى الداخلي وإلى سوريا، وبين مطالبتها بتخصيص العائلات الأكثر فقراً بالدعم المطلوب بدلاً من إبقائه دعماً للنظام السوري ومحور الممانعة.


 

ومن الواضح، انّ «القوات» تحاول محاصرة السلطة بين كماشة حصر الدعم بالعائلات الأكثر فقراً، بغية وضع حدّ للتهريب الحاصل الذي كبّد الخزينة ملايين الدولارات هباء، وبين تقديم اقتراح قانون للمحافظة على الاحتياطي الإلزامي، اي بما يمنع المسّ به، باعتبار انّ ما تبقّى من ودائع الناس ليس ملكاً لمصرف لبنان، ومعلوم انّ السلطة لن تتوانى عن استخدام هذا الاحتياطي وقريبا جداً حفاظاً على وجودها. فهل ستقود «القوات» و»الإشتراكي» المواجهة في الشارع ضدّ هذه السلطة في حال استخدمت الاحتياطي؟


وإذا كان «الإشتراكي»، الذي يتحضّر للمشاركة في الحكومة في حال نال الحصة التي يريدها، ليس في وارد استخدام الشارع، فإنّ «القوات» لا تخفي سعيها إلى إسقاط الأكثرية والذهاب إلى انتخابات نيابية مبكرة، ولكنها في الوقت نفسه تحرص على عدم الصدام مع القوى الأمنية، حيث كرّر رئيسها الدكتور سمير جعجع في أكثر من مناسبة بأنّ «الصدام مع الجيش وقوى الأمن الداخلي خط أحمر، لأنّه سيكون نهاية للشعب اللبناني»، ما يعني أنّ جعجع ليس في وارد مبدئياً توسُّل الشارع، وسيُبقي مواجهته ضمن الأطر السياسية.


وفي حال لم تشعر الأكثرية الحاكمة بالخطر من غضب الشعب، او من غضب القوى السياسية، فإنّها ستبقى متربعة في مواقعها. ولكن من الواضح انّ ما لا تأخذه السلطة في الحسبان والاعتبار، تتعامل معه الأحزاب الوازنة في المعارضة على قدر كبير من المسؤولية، باعتبار انّ لبنان يقف على أعتاب الدخول في الفوضى. ومهما كان ثمن استمرار الأكثرية مكلفاً وباهظاً، فإنّها ما زالت تتعامل مع هذا الثمن بأنّه يبقى أقل من انهيار الدولة. وإلى ان تعيد النظر بسياستها وان تلجأ إلى المواجهة المفتوحة من دون سقوف، فإنّ الأكثرية باقية في مواقعها.


وأما المستوى الثالث، فيتصل بحرب عسكرية او أمنية يمكن ان تشنها إسرائيل، واي حرب من هذا النوع في ظلّ أوضاع الدولة المهترئة والناس المعدومة والحصار الخارجي، يمكن ان تشكّل تحولاً وتغييراً وقلباً للطاولة، وهذا التطور لا يمكن استبعاده، أقله إلى حين خروج الرئيس دونالد ترامب من البيت الأبيض.


ففي حال لم يطرأ اي تطور على المستويات الثلاثة أعلاه، رفع الدعم الذي يحرِّك الركود الشعبي، توسُّل الأحزاب الوازنة المعارضة للشارع، وحرب إسرائيلية، فإنّ الأكثرية الحاكمة لن تحرِّك ساكناً، ولن تقدِّم تنازلاً، وستبقى متمسكة بسلطتها ومواقعها ونظرتها لشكل الحكومة العتيدة وطبيعتها. ويخطئ كل من يراهن على سقوطها العفوي والطبيعي والتلقائي. فبعدما تجاوزت انتفاضة 17 تشرين والأزمة المالية، فإنّها قادرة على «الصمود» حتى نهاية العهد.