لم يبق للبنان من باب على المجتمع الدولي سوى فرنسا التي لم تيأس بعد من مَد يد العون إليه تجنّباً لغرقه الكامل وعزلته الشاملة، فيما الموقف الأميركي والخليجي حاسم على هذا المستوى بأنّ مساعدته غير ممكنة طالما انّ قراره بيد «حزب الله».

رفعت واشنطن من سقف ودرجة مواجهتها مع العهد أو الرجل الأقوى داخله رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل بشكل غير مسبوق، فليس تفصيلاً أن تتبنّى معادلة انّ «باسيل يغطي سلاح «حزب الله» مقابل تَغاضي الحزب عن فساده»، فهذا يعني أنّ واشنطن قررت المواجهة المفتوحة مع هذا الفريق، وأسقطت كل تمييز بينه وبين الحزب، وجعلتهما منظومة واحدة ومتكاملة، الأمر الذي سيَرتدّ سلباً على العهد برمّته في الوقت المُتبقّي له في رئاسة الجمهورية، فيما تحوّل باسيل إلى غير مرغوب به أميركياً، ليس بسبب العقوبات فقط، بل ربطاً بمحاولته تكذيب السفيرة الأميركية في معرض الدفاع عن نفسه وتحوير النقاش معها، ولا تختلف النظرة الأميركية لباسيل عن النظرة حيال العماد ميشال عون، والتي لم تكن يوماً محط ثقة وارتياح. وإذا كان باسيل يعتقد أنّ هذه النظرة تتبدّل مع تبَدُّل الإدارة الأميركية فهو مخطئ، لأنّ النظرة حيال العماد عون ظلّت هي نفسها منذ العام 1989.

 

وما ينطبق على الموقف الأميركي ينسحب على الخليجي، الذي خرج بهدوء ومن دون ضجيج في تناغم كامل مع الولايات المتحدة برفض تقديم أيّ مساعدة للبنان في ظل سيطرة الأكثرية الحاكمة وتَحكّمها بالقرار، وذلك على رغم قَول السفيرة الأميركية إنّ بلادها «لم تفعل بعد كما دول الخليج بالابتعاد عن لبنان وعدم دعمه»، حيث أنّ المساعدات الأميركية تقتصر على الجوانب العسكرية والصحية والاجتماعية. لكنّ الثابت في هذا المشهد يكمن في وجود قرار أميركي وخليجي بترك لبنان الرسمي يتخبّط في أزمته، وهذا ما دفع الرئيس الفرنسي الى القول إنّ أحد أسباب دخوله على خط مساعدة لبنان يكمن في وجود قرار خارجي بتَركه لمصيره. وبدلاً من أن يستفيد الفريق الحاكم من المبادرة الفرنسية التي تشكّل الاختراق الدولي الوحيد في ظل الإطباق العربي والغربي على لبنان، راح يضع الشروط والشروط المضادة حتى أجهَض المبادرة وقطع الطريق على المؤتمر الدولي الذي كانت تعدّ له باريس ويشكّل مصلحة لبنانية. ولكن كيف يمكن الإعداد لمؤتمر من دون حكومة مخَوّلة تنفيذ ما يقرّه هذا المؤتمر وترجمته على أرض الواقع؟

 

فالدولة الوحيدة التي ما زالت تحاول مساعدة لبنان هي فرنسا التي وضعت كل ثقلها لإخراجه من أزمته، فما كانت النتيجة غير إفشالها وإقفال الطريق أمامها وإظهارها بأنها عاجزة، وتوجيه الأكثرية المتحكمة رسالة لها بأنها تفضِّل التعامل مع من يعاقبها ويعنِّفها. بينما واشنطن، في المقابل، لا تكترث لوضع لبنان، وسيكون أمام الإدارة الجديدة تحديات كثيرة تبدأ من الوضع الأميركي الداخلي الذي تسببت به الانتخابات، ولا تنتهي بدورها الخارجي من الصين إلى أوروبا وصولاً إلى الشرق الأوسط، حيث سيبقى لبنان طويلاً على رصيف انتظار تَبلور الرؤية الأميركية للمنطقة، وبالتالي من مصلحته في هذه المرحلة ترتيب أوضاعه الخارجية لا مواصلة تعكيرها.

 

والسؤال الأساس الذي طرح على أثر زيارة الموفد الفرنسي: هل تنضَم باريس إلى الموقف الأميركي والخليجي بترك لبنان لمصيره، أم تُبقي على تمايزها وتواصل سعيها لمنع انزلاقه نحو الفوضى؟ ووفق الانطباعات التي خرج بها كلّ مَن التقى الموفد الفرنسي، فإنّ باريس لن تتخلى عن لبنان، ولكن عدم التخلي غير قابل للصرف إذا كان لبنان لا يريد أن يساعد نفسه بتشكيل حكومة قادرة على إنجاز الإصلاحات التي وحدها تفتح باب المساعدات.

 

وفي موازاة إدراك واشنطن وعواصم الخليج بعدم قدرة اللبنانيين على تشكيل حكومة وفق المواصفات المطلوبة دولياً بألّا يكون «حزب الله» مُمسكاً بقرارها، فإنّ القرار المتخَذ وحتى إشعار آخر يكمن في ترك لبنان يتخبّط بأزماته إلى الوقت الذي يحين فيه أوان التسوية التي ستعيد النظر بالنظام السياسي من أجل حل نهائي لا مؤقت للأزمة اللبنانية وأزمات المنطقة أيضاً. وبالتالي، إنّ محاصرة لبنان تدخل في سياق خطة دولية ترمي إلى إنهاكه بُغية تعبيد الطريق نحو التسوية التي تُبعد التأثير الإيراني على القرار السياسي اللبناني.

 

وعلى رغم عدم امتلاك العهد لأوراق القوة التي تمكِّنه من الصمود أو طرح البدائل عن الرئيس المكلف سعد الحريري، إلّا انه لن يتهاون مع حرب خارجية ضده، بل يعتبر انه في هذا الوقت بالذات عليه تحصين وضعه، وهذا التحصين يمرّ بحكومة يُمسك بمفاصلها وقراراتها وتوجهاتها، لأنه ينطلق من مبدأ انّ قوته مُتأتية من سطوته، والتي في حال تراجَعَ عنها، فسيتراجع بالتالي نفوذه وتأثيره، كما أنه ليس في وارد أن يستبدل الحصار على لبنان بالحصار على نفسه. وبالتالي، هو يفضِّل السقوط بالقوة على التراجع او التنازل، ولذلك لا بوساطة فرنسية ولا بغيرها سيتراجع العهد عن شروطه في التأليف، من حجم الحكومة، إلى تسمية الوزراء، وما بينهما وزارة الطاقة التي لن يقبل بأي حلّ فرنسي لوضعها، وأن يكون على على رأسها بديلاً غيره.

 

فلا حكومة في الأفق سوى في حال وصول الرئيس المكلف إلى قناعة انّ مُطلَق أيّ حكومة تبقى أفضل من الفراغ، فيما يعتبر العهد تأسيساً على التجربة مع الحريري بأنه عاجلاً أم آجلاً سيَصل إلى هذه القناعة، إذ حتى الموفد الفرنسي لم يشدد على المداورة ولا على تسمية الوزراء، وتم الاكتفاء بتوزير اختصاصيين لا حزبيين، وكأنّ المشكلة هي في الحزبي أم في قرار الوزير المَمسوك من مرجعيته السياسية، وفي حال لم يصل الرئيس المكلّف إلى هذه القناعة فإنه سيُدفع إلى الاعتذار بحجة أنّ البلاد بحاجة لحكومة ولا تحتمل استمرار الفراغ، ولكن لا مؤشرات إلى نية الحريري في الاعتذار.

 

وإذا كان الحريري يراهن على أنّ العهد سيُليِّن موقفه بسبب الأزمة المالية، فرهانه في غير محله، لأنّ الموقف الأميركي المَعطوف على الخليجي سيدفعه إلى التشدّد لا التساهل، خصوصاً انه يَلقى الدعم الكامل من «حزب الله» على أثر العقوبات الأخيرة التي، بِنَظر الحزب، وَضعت باسيل في حضنه بشكل كامل، ولم يعد أمامه من خيارات ولا قدرة على المناورة، لأنه في حال تخلّى عنه الحزب يخسر كل شيء. كما يعتبر الحزب بدوره انّ إضعاف العهد يشكل إضعافاً له، وبالتالي سيضع مفاتيح التأليف في بعبدا، على غرار ما كان يفعل في استحقاقات مماثلة.

 

ومن هنا إلى أين؟ إلى مزيد من الفراغ واستمرار للستاتيكو نفسه بتأليف أو من دونه، لأنّ التأليف بشروط العهد سيُفاقم عزلة لبنان لا العكس، واحتمالات خروج البلد من أزمته متعذرة جداً، فيما الخروج من هذا الستاتيكو محليّاً بمعزل عن التطورات الخارجية، يكون إمّا بخطوة حَدّ أدنى عن طريق اعتذار الحريري، او بخطوة حَدّ أقصى بالاتفاق بين الثلاثي «القوات» و»المستقبل» و»الإشتراكي» على الاستقالة من مجلس النواب.

 

وبما ان لا قرار بالاستقالة ولا الاعتذار، فإنّ احتمالات المرحلة تنحصر باثنين: حكومة بشروط العهد او استمرار الفراغ.