خلافاً لمضمون البيان الرسمي عن «تقدّم وتعاون إيجابي» بين الرئيس ميشال عون والرئيس المكلَّف، فإنّ الرئيس سعد الحريري رفع سقف شروطه إلى الحدّ الأقصى في الأيام الأخيرة. ويقول القريبون منه: الرجل «عايز مِستَغني». فإذا نجح في تشكيل الحكومة كما يريد «كانَ بِه»، «وإذا فشل فإنه سيترك التكليف ويمشي». ولكن هل سيغامر الحريري فعلاً بخسارة السرايا، أم انه يمتلك ضمانات بأنّ كل شيء سيكون في النهاية «على خاطِره»؟

يعتقد البعض أنّ الحريري لا يريد تفويت فرصة الدعم الدولي «الاضطراري» له. فليس بالأمر البسيط أنّ القوى العربية والدولية التي دعمت الشارع الذي أسقطه في تشرين الأول 2019، هي نفسها تحرص على عودته بعد عام.

 

فاتصال وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو بالرئيس ميشال عون، داعياً إيّاه إلى عدم تأجيل الاستشارات النيابية، أوحى بأنّ هناك على الأقل «قَبّة باط» أميركية لوصول الحريري. وفي الموازاة، ظهرت ملامح تأييد سعودي لعودته، فيما الفرنسيون يعتمدون أساساً على الرجل لإنجاح مبادرتهم.


 
 

ولكن، يعرف الجميع، بمَن فيهم الحريري، أنّ «رفع الفيتو» العربي والدولي عن الحريري ليس مجانياً، بل هو مرهون بمدى مُلاءمة حكومته وبرنامجها لمستلزمات القرار الدولي، سواء في ما يتعلق بالإصلاح أو بنَأي لبنان بنفسه عن الأزمات. وهذا ما سيظهر خصوصاً في مقاربة ملف المفاوضات مع إسرائيل ومُستتبعات عملية الترسيم وتَقاسم مخزونات الغاز معها.

إذاً، يستطيع الحريري أن «يضرب بسيفه» في عملية التأليف لأنه مدعوم خارجياً، ولأنّ أحداً في الداخل لن يُشاغب على إرادة القوى المانحة، العربية والدولية. ولذلك، الحريري اليوم يختلف عن «حريري التسوية» في العام 2016. وليقتنع شركاء التسوية بأنها انتهت، وليكفّوا عن محاولة استيلادها.

 

وفي هذا الجو، الرجل يستعد للذهاب نحو أحد خيارين: إمّا تأليف «حكومة المَهمَّة» التي جاء من أجلها، وإمّا الاعتذار، ولا خيار ثالثاً أمامه. وصحيح أنه يمنح نفسه مزيداً من الوقت لاستنفاد الفرص، لكنه يدرس بدقّة احتمالات الانسحاب.

 

القريبون يتجنَّبون تحديد مهلة زمنية والقول متى يَنْفَد «صبر» الحريري، ولكنهم يؤكدون أنّ الاعتذار خيار جدّي ووارد في أي لحظة. «فإطالة حال المراوحة تقود إلى مزيد من التدهور الاقتصادي والمالي والنقدي، ولا يريد الحريري أن يتحمَّل المسؤولية اليوم، كما جرى تحميله المسؤولية قبل عام».

 

فوق ذلك، يدرك الحريري أنّ البرنامج الذي ستحمله حكومته العتيدة يتمتع بتغطية عربية ودولية قد لا تتكرَّر، وهي ستزول إذا ضاعت فرصة التأليف أو تمّ إنتاج حكومة مُحاصصة. فالفرنسيون ما زالوا يحافظون على مستوى عالٍ من الاهتمام بالملف اللبناني، على رغم انشغالاتهم الداخلية، كما أنّ السعوديين أعطوا ضوءاً أخضر «ثميناً» لدعم حكومةٍ إنقاذية. وهذه المبادرات يَصعب تكرارها.

 

أكثر من ذلك، هناك في البيئة المحيطة بالحريري مَن يقول: «بكل المعايير، ليس في مصلحة الرجل أن يتنازل في عملية التأليف، لأنّ ذلك سيدمِّره سياسياً، سواء بخضوعه مجاناً للابتزاز والاستضعاف أو بخسارة رصيده الشعبي.


 
 

فتشكيل حكومة المحاصصة سيقود إلى سقوط أركانها سياسياً، وفي مقدّمهم الحريري. وعندما تتكامَل فصول الانهيار حتى النهاية، سيحاول الشركاء التنصُّل من المسؤولية وتحميلها للحريري، بوَصفه رئيس الحكومة».

 

إذاً، ما سقف التنازلات التي يقبل بها الحريري؟

القريبون يقولون إنه مستعدّ لمفاوضة رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس «التيار الوطني الحرّ» النائب جبران باسيل على أعداد الوزراء المحسوبين على هذا الفريق وأسمائهم والحقائب، لكنه يرفض تكريس وزارة الطاقة له، رداً على احتفاظ الفريق الشيعي بوزارة المال.

 

ففي هذه الحال سيفتح على نفسه أبواباً يصعب إقفالها. وسيكون عسيراً عليه التعاطي مع المطالبات الكثيفة الأخرى التي تَرِد من رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط والنائب طلال إرسلان ورئيس «المردة» سليمان فرنجية وسواهم.

 

وكذلك، هو لن يرضخ لمحاولات استقطاب باسيل للثلث المعطِّل داخل الحكومة، ولو تحت طائلة الانسحاب من عملية التأليف والاعتذار.

ولكن، هل يعتذر الحريري فعلاً أم يكتفي بالتلويح؟

 

الفرنسيون يريدون الحريري كـ»رَجُل مَهمّة» على رأس «حكومة المَهمّة»، بعد فشل محاولتهم تشكيل حكومة من مستوى آخر مع الدكتور مصطفى أديب. وهم أقنعوا الأميركيين والسعوديين بذلك. وإزاء انشغال الإدارة الأميركية بانتخاباتها، تمّت الموافقة على الاستعانة موضعياً وظرفياً بالحريري، لأنّ التحديات الإقليمية تستلزم وجود حكومة فاعلة.

 

ولذلك، ليس في إمكان الحريري تجاوز الإطار المرسوم لحكومته، لأنه يعرّض نفسه والحكومة والبلد لمواجهة خطرة. وهو اليوم، إذ يرفع سقف شروطه، إنما يدرك أنه مدعوم عربياً ودولياً وأنّ القوى الداخلية لا تجرؤ على الذهاب بعيداً في مواجهته. ولذلك، هو يعتقد أنّ تلويحه بالاعتذار سيُؤتِي ثماره بالضغط على القوى الأخرى.


 
 

ولكن، هل يمكن للحريري أن يطمئن إلى أنّ «حزب الله» أيضاً سيراعي الاعتبارات العربية والدولية ويُليّن موقفه، أم انّ له حساباته ومنطلقاته للتعاطي مع هذه المسألة؟

 

«الحزب» هو اللاعب الحقيقي الذي يحرِّك الأمور على المسرح من خلف الستارة. وفي تقدير المطّلعين أنّ إيران - و»الحزب» من خلالها - تعتمد سياسة «تقطيع الوقت» لِتلمُّس ما ستفرزه وقائع الانتخابات الأميركية. وفي ضوء النتائج تُحدِّد نهجها الجديد على مستوى الشرق الأوسط ككل.

 

إذاً، وفقاً لنتائج الانتخابات ونظرة إيران ستتحرَّك اللعبة في لبنان. فقد يُتاح للحريري أن يضرب بسيفه ويؤلّف الحكومة كما يريد، نسبياً، وقد ينسحب تاركاً المجال لسواه، أو يقتنع بـ«حكومة الصفقة» و«الأمر الواقع» مرّة أخرى.