ليس من باب المصادفة أن تنطلق حملة إسرائيلية تنادي بإعادة اقتسام المنطقة البحرية المتنازَع عليها بعدما قدّم لبنان خطه القانوني لاستعادتها كاملة بزيادة ما يفوقها وفق الخط الوسطي. فلبنان نَسي ما سمّي بخط «هوف» كونه «اقتراحاً» غير مُلزم للطرفين ويصرّ على ما منحه إيّاه قانون البحار. وإن لم يقتنع الاسرائيلي ومعه «الوسيط المُسهّل» بالطرح اللبناني، علينا قراءة مستقبل المفاوضات من جوانب سياسية وديبلوماسية غير قانونية. كيف؟ ولماذا؟

الى أن تُستأنف المفاوضات اللبنانية ـ الاسرائيلية غير المباشرة من اجل ترسيم الحدود البحرية الى مقر «اليونيفيل» في الناقورة في 11 تشرين الثاني الجاري، يستعد المراقبون لمزيد من السيناريوهات والروايات الإسرائيلية التي تُحاكي الخط الذي رسمه الجيش اللبناني وحَمله الوفد المفاوض إليها. ومن الطبيعي ان يعتصم الوفد الأميركي، بصفته «الوسيط المُسهّل»، بالصمت في هذه المرحلة بالذات تزامناً مع استمرار الأمم المتحدة في توفير الأجواء الراعية للمفاوضات في مقرها من دون اي تدخّل مباشر في المفاوضات.

 

فقد بات واضحاً انّ «اتفاق الإطار» رسَم الأدوار النهائية للأفرقاء المشاركين في قاعة المفاوضات، وقد عَبّر الأميركيون في أكثر من مناسبة وأمام المسؤولين اللبنانيين الكبار انهم مستعدون لفِعل ما في وسعهم ليأدّوا دور «الوسيط المسهّل» عندما يتفق الطرفان على طلب التدخل إنفاذاً لهذه المهمة. وهو أمر وضع الوفد الأميركي في موقع المراقب الى اليوم، وتحديداً في الجولتين اللتين عقدتا في 28 و29 تشرين الاول المنصرم وأعقبتا الجلسة الإفتتاحية في 14 منه.


 
 

ولمّا كان واضحاً انّ لبنان الذي قدّم وجهة نظره وخرائطه الجديدة في الجولة الأولى، انتظر في الجولة الثانية رداً اسرائيلياً مفصّلاً لكنه لم يُنجز بعد. فإلى تَلقّيه رفضه الخط اللبناني وتعبيره عن «الدهشة» التي تحدث عنها بعض أعضاء الوفد الاسرائيلي على وَقع ما كِيلَ في وسائل إعلام إسرائيلية من اتهامات طاوَلت قائد الجيش العماد جوزف عون والمؤسسة العسكرية، فقد وعد المتحلّقون حول الطاولة بالإتيان بما يدعم موقفه في القانون خلال الجولة المقبلة. فرهان لبنان كان ولا يزال في هذه المفاوضات غير المباشرة على ما تقول به القوانين الدولية والاتفاقات السابقة التي أبقَت ملف الترسيم البحري كما البري معلّقاً في انتظار مثل هذه المفاوضات الجارية اليوم. فلبنان مقتنع أنّ قانون البحار يُعيد إليه المنطقة المتنازَع عليها كاملة، وهي بمساحة 860 كيلومتراً بحرياً مُضافاً إليها ما له من حقوق مكتسبة تمتد جنوباً لتصل المساحة المتنازَع عليها الى 2290 كيلومتراً مربعاً.

 

لقد كان واضحاً انّ لبنان استنَدَ في خرائطه ومعادلاته الجديدة، التي رسمت الخط الجديد، الى ما قال به قانون البحار وما قالت به اتفاقية الهدنة العام 1949 التي قالت باحترام الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين المحتلة، وهي نفسها التي حدّدت الرأس البحري الذي ستنطلق منه المفاوضات كما حدّد عند ترسيم الحدود الدولية المرسومة مع فلسطين المحتلة عام 1923. ولذلك لن ينفع اسرائيل اذا بقيَ البحث في نقطة الانطلاق البرية كما هي وفق هذه الحدود التي اعترفت بها عام 1949. وهي نقاط واضحة لا تحتمل أي تفسير آخر يمكن ان يُثير الجدل لا مع الإسرائيليين ولا الرعاة الدوليين.

 

ولذلك، فإنّ الحديث عن أي معطيات أخرى يمكن ان يستند اليها الوفد الاسرائيلي في ردّه لِدَحض الخرائط اللبنانية في الجولة المقبلة يمكن ان يستند - وفق التقديرات اللبنانية - الى تَجاهل ما يقول به القانون. وربما سيعود وفدها الى الاستناد الى ما حاولت فرضه من أمر واقع بَرّي وبحري غير قانوني بعد انسحابها عام 2000 من جنوب لبنان. فهي «أزاحَت» البوابة البرية على الطريق البحري الساحلي في منطقة الناقورة 17 متراً الى الشمال في اتجاه الاراضي اللبنانية، وانّ البوابة القديمة ما زالت شاهدة على موقع نقطة الحدود الاصلية السابقة. كما انها حرصت عن قَصد بتوصيف «الصخرة» التي اعتمدت لترسيم الخط البري بالـ»جزيرة»، وهو أمر لا ينطبق مع ما قال به القانون. فهي لا تحمل «بذور الحياة عليها»، عدا عن كَونها بطول 17 متراً وعرض 7 أمتار تغطّيها موجات البحر بين لحظة مَد وجزر في لحظات، ما يَنزَع عنها صفة «الجزيرة» في قانون البحار.


 
 

والى هذه الملاحظات، فقد تحدثت مراجع قانونية عن جوانب مهمة تحدث عنها قانون البحار ولم يتنبّه لها أحد حتى اليوم. فهو تحدّث في إحدى مواده عن آليّة لِحل الخلافات بين الدول إن لم يتوافقا على تطبيق القانون. وهو قال انطلاقاً من عدم اعتبار الحدود البحرية كحدود لـ»عقار مَمسوح» ومحدد بشكل دقيق، فدعا الدول المتجاورة الى الاتفاق بينهما على «اقتسامها بالرضى والتفاهم» بعد «تحديد حاجة كل منهما الى ما يمكن أن تحويه من ثروات»، وهو أمر ينتصر «لِحَق لبنان بنسبة أكبر من الثروة»، فوضعه الاقتصادي أضعف بكثير من اسرائيل. وجاءت نكبة مرفأ بيروت في آب الماضي لتنعكس ايجاباً على حركة مرفأ حيفا الاسرائيلي، فانتعَشَ بسبب النكبة. ولذلك، فإنّ اللجوء الى هذا الحل يُنصف لبنان أكثر باستعادة منطقة أوسع ممّا يعتقده الطرف الآخر.

 

وعليه، فإنّ الحديث الاسرائيلي في الساعات القليلة الماضية عن عرض جديد سيحمله الوفد الاسرائيلي بإعطاء لبنان 55 % من المنطقة المتنازَع عليها عندما كانت بمساحة 860 كيلومتراً، هو أمر مرفوض. فهو يعني أولاً، بالعودة الى ما سُمّي خط «هوف» الذي أعطى لبنان 500 كيلومتر من أصل 860 وتركَ للإسرائيليين الـ 360 كيلومتراً المتبقية. ولكن لم يَتنبّه الاسرائيليون الى ما أكّده الوسيط الأميركي كريستوفر هوف في حينه، فهو لم يَقل إنه «خط نهائي» أو «خط ترسيم قانوني» بمقدار ما كان مجرد «فكرة أميركية لاقتسام الثروة» في المنطقة، وهي غير ملزمة وغير مشروطة إلّا بموافقة الطرفين. وهو ما رفضه لبنان في حينه، خصوصاً انّ الموفد الاميركي اعترف في آخر جولة مَكوكية قام بها بين بيروت وتل ابيب بحقّ لبنان بكل منطقة الـ 860 كيلومتراً. وهو أمر تدركه اسرائيل وكلّ مَن شارك في المفاوضات في تلك المرحلة، وما على الوفد الإسرائيلي الحالي إلّا العودة الى تلك المرحلة للتَثبّت من ذلك، وانّ لبنان على استعداد لتأكيد هذا الإعتراف متى شاء وفد العدو المفاوض.

 

وبناءً على ما تقدّم، على المفاوضين أن يدركوا انّ لبنان نَسي خط «هوف» غير المُلزِم ولم يعد له اي قيمة قانونية، وباتَ على لائحة الخطوط الأخرى المهملة، كمِثل «الخط الأزرق»، فهو بالنسبة الى لبنان «خط الانسحاب الإسرائيلي»، وليس خطاً حدودياً بوجود الحدود الدولية المعترف بها مع فلسطين المحتلة.