العالم كله، وعلى وجه الخصوص الشرق الاوسط، بانتظار الثلاثاء الكبير في الولايات المتحدة الاميركية. ذلك أنّ هوية ساكن البيت الابيض للسنوات الاربع المقبلة، مسألة بالغة الاهمية لدول الشرق الاوسط، المرهقة بسبب الحروب والنزاعات والعقوبات الاقتصادية، والآثار المدمّرة لانتشار فيروس كورونا على اقتصاد دول المنطقة. أضف الى ذلك، التحوّلات السياسية الهائلة التي تشهدها المنطقة، لتنقل الصراع من عربي - اسرائيلي، كما كان سائداً منذ العام 1940، الى نزاع وتنافس بين محاور جديدة ثلاثة، تتوزع بين الاسرائيلي والخليجي والايراني، وامتداده الشيعي والتركي وركيزته «الاخوان المسلمون».

 

لكن قبل ذلك، واستناداً الى الانقسام الحاد الذي يطبع المنافسة الانتخابية الحامية، كما استناداً الى المواقف التي أُطلقت خصوصاً من جانب الرئيس الاميركي دونالد ترامب، فهل انّ توزع اللونين، الاحمر للجمهوريين والازرق للديموقراطيين سيتمّ بهدوء وسلام؟ الأرجح انّ النتيجة ستتأخّر بعض الوقت. ولكن السؤال الاهم يبقى حول احتمالات الشغب والفوضى، وربما حصول اضطرابات.

 

صحيح انّ السلطات الاميركية قوية ومتماسكة وقادرة في نهاية المطاف على استعادة الإمساك بزمام الامور. ولكن أشارت الاستطلاعات الى انّ 41% من مؤيّدي ترامب سيرفضون النتيجة، ويعتبرونها مزورة في حال خسارة مرشحهم. كما انّ 43% من مؤيّدي بايدن سيتصرفون بالطريقة نفسها.


 
 

وخلال الاسابيع الماضية، أجرت وزارة الداخلية الاميركية بالتعاون مع وزارة العدل ومكتب FBI، تدريبات خاصة عنوانها التعامل مع اضطرابات محتملة بعد صدور نتائج الانتخابات. وشملت هذه التدريبات والخطط، العاصمة واشنطن، ولو ان السلطات الاميركية لا تملك معلومات محدّدة حول وجود تخطيط منظّم لأمور مماثلة. لكن ما كان مكتب FBI قد كشفه حول مؤامرة حاكها متطرفون بيض لخطف حاكم ولاية ميتشيغان وعمل على احباطها، واعتقل على اثرها 13 شخصاً بينهم 7 اعضاء ينتمون الى تنظيم متطرف،

ما يستدعي السؤال، هل تقع الفوضى غداة اغلاق صناديق الاقتراع خصوصاً اذا كانت الفوارق ضئيلة؟

 

وعلى الرغم من الارقام التي تعلنها استطلاعات الرأي، والتي تعطي المرشح الديموقراطي جو بايدن فوزاً واضحاً، الّا انّ خبراء اميركيين لا يعتقدون انّ النتيجة محسومة. فوفق رأي هؤلاء، فإنّ هنالك نسبة مئوية بين الاميركيين باتت تُعرف بأنّها «الناخبون الصامتون» المؤيّدون لترامب، وهذه الفئة من الناس لا تفصح عن آرائها عند إجراء استطلاع رأي.

 

في الواقع، فإنّ بقاء ترامب سيعني استمرار سياسة الضغط باتجاه ايران، وايضاً «حزب الله» في لبنان، لإرغامها على الجلوس على طاولة المفاوضات. وهو ما توقعه ترامب، كون ايران اصبحت منهكة وفق اعتقاده.

 

أما في حال فوز بايدن، فهو سيجري انعطافة قوية في السياسة الخارجية الاميركية، حيث سيضع جانباً عقيدة الولايات المتحدة الاميركية اولاً، وسينطلق في هندسة سياسة جديدة، تقوم على استعادة دور بلاده لقيادة العالم، كما يقول كبير مستشاري بايدن للشؤون الخارجية انطوني بلينكن، والذي يتابع قائلاً: «ستعيد إدارة بايدن إحياء الاتفاق النووي مع ايران، والذي جرى توقيفه عام 2015». لكن بلينكن رفض التطرّق الى امكانية تعديل الاتفاق، ليشمل الصواريخ الباليستية ووضع «حزب الله» وحركتي «حماس» و»الجهاد الاسلامي».

 

في الواقع، ثمة انطباع بأنّ بايدن في حال وصوله، سيستمر بالضغط من خلال العقوبات، لاستثمارها افضل في الاتفاق مع ايران.


 
 

أما عند المقلب الايراني، فتبدو الامور اكثر تعقيداً مما توحي به الامور. ذلك انّ ّنقض الاتفاق النووي من قِبل ترامب، ضاعف من شعور عدم الثقة بالنوايا والالتزامات الاميركية، وهو ما ادّى الى تراجع حضور تيار الاصلاحيين وتعزيز تيار المحافظين او المتشدّدين في إيران.

 

في الواقع، يزداد ارتياب المحافظين، بأنّ واشنطن تريد تغيير النظام الاسلامي في ايران، اكثر من عقد اتفاقات معها. ولا شك انّ مرشد الثورة السيد علي خامنئي يراقب بكثير من التمعن «اتفاقية ابراهيم» بين اسرائيل والامارات والبحرين المجاورتين لجنوب ايران، والتي تتضمن تفاهمات امنية. وكذلك مع السودان، او الممر الآمن الذي كانت تستخدمه ايران للوصول الى غزة.

 

وفي المقلب الشرقي، اتفاقية سلام بين الاميركيين وحركة طالبان في افغانستان، وشمالاً اندلاع المعارك في اقليم ناغورنو كاراباخ، حيث الطرف الأذربيجاني يشكّل القومية الثانية الكبرى في التركيبة الايرانية الداخلية.

 

ومعه، لا بدّ ان يشعر بتوجس بوجود نية لتطويق ايران، إما بالسلام المسموم او النار المؤججة.

 

اضف الى ذلك، اغتيال قاسم سليماني، الرجل الذي كان بارعاً في تصدير الثورة وترتيب التمدّد الاقليمي. والاكثر حراجة ما كان يتردّد حول الرغبة التي كانت موجودة لدى خامنئي، بتحضير سليماني لدور مستقبلي قوي على مستوى السلطة.

 

وما من شك، بأنّ الاولوية لدى تيار المحافظين هي بتأمين استمرارية النظام الذي يرتكز على الايديولوجية الدينية.

 

ولم يعد سراً انّ المحافظين وعقب التوقيع على الاتفاق النووي والشروع لفتح ابواب الاستثمار امام الشركات الغربية، وضع خطة للحدّ قدر الإمكان من التغلغل الخفي للاميركيين في النسيج الايراني، تمهيداً للانقضاض على النظام.


 
 

لكن واشنطن تدرك انّ المرشد الروحي للثورة الايرانية هو براغماتي بقدر ما هو ايديولوجي. بمعنى أنّه اصبح متقدّماً في العمر ويريد تأمين استمرارية النظام، وسط التهديدات الخارجية والتناقضات الداخلية التي تغذيها المخاطر الاقتصادية وتعب الشارع، وهو ما يؤدي الى مناخ ملائم للمعارضة.

 

بعد الدروس الموجعة للحرب الايرانية - العراقية، التزم السيد خامنئي باستراتيجية بسيطة وواضحة: عدم الدخول في حروب مباشرة بعد الآن وخصوصاً مع الاميركيين، لحماية الداخل الايراني، وفي الوقت نفسه عدم الذهاب الى تسويات سلمية مع واشنطن، للمحافظة على ركائز العقيدة الثورية. لذلك لعبت ايران طوال العقود الماضية ضمن هذين الحدّين، باستثناء الاتفاق النووي الذي حرصت على وضعه في اطار ضيّق لا أبعاد سياسية له.

ولذلك كان احد ابرز اسباب خروج ترامب من الاتفاق، انه يريد انجاز تسوية سياسية الى جانبه. كما سعى خامنئي الى مدّ نفوذه الى الخليج من خلال الصراع مع السعودية، وعلى اساس انّه صراع ايديولوجي لا سياسي فقط.

 

اما واشنطن، فهي وجّهت رسائل كثيرة الى طهران، وفي اشكال متعددة، بأنّها لا تسعى ولا تريد تغيير النظام الايراني. مثلاً، خلال ما عُرف بالثورة الخضراء عام 2009، سرعان ما ادارت واشنطن ظهرها للمحتجين وتركتهم في منتصف الطريق، بعد ان تجاوزت حركتهم حداً معيناً، وكانت الرسالة واضحة: إزعاج النظام لا تغييره.

 

وحصلت عمليات امنية في مراحل متعدّدة داخل ايران قيل انّ المخابرات الاميركية تقف وراءها. وحتى خلال الاشهر الماضية وفي عزّ الصراع الايراني - الاميركي حصلت عمليات امنية يومية في ايران، سرعان ما جرى وقفها، رغم انّها بقيت مجهولة الفاعل، وهي طالت منشآت حيوية ولكنها غير مصنّفة في خانة «فائقة الاهمية». والرسالة هنا ايضاً كانت واضحة: قادرون على الوصول الى أبعد مكان، لكننا لا نريد رأس النظام.

 

لكن ما هو محرّم على مستوى النظام، هو مسموح على مستوى الاقتصاد، لذلك كان الضغط عبر العقوبات على القطاعين النفطي والمصرفي. وهو ما يشكّل مصدر ازعاج حقيقي لإيران. وانطلاقاً من هنا قد تكون واشنطن تعتقد انّ ايران اصبحت ناضجة للدخول في اتفاق نووي ولكن معدلاً. اتفاق يضمن استمرار النظام، وفي الوقت نفسه يعيد الروح للنظامين الاقتصادي والمصرفي، بعدما تكفّل فيروس كورونا في إنهاك الاقتصاد الايراني اكثر فأكثر.

 

في الواقع، واشنطن تريد محوراً ايرانياً في المنطقة، في اطار لعبة التوازنات مع المدّ الاسلامي بقيادة تركيا، والذي ينمو بشكل لافت داخل الانظمة العربية المتهالكة. ولكنها تريد للمحور الايراني حدوداً مدروسة جداً، في اطار التوازن في المنطقة لا الغلبة. وهي قد تقبل بعلاقة باردة في العلن، اذا كان ذلك يساعد استمرارية النظام. وهي لا يزعجها بالتأكيد استمرار العداء الايراني لاسرائيل ولكن ضمن ضوابط صارمة، او في اطار المواجهة الناعمة. ربما لذلك استذكر السيد خامنئي عبارة سلفه الامام الخميني، حول تجرّع السمّ عند موافقته على انهاء الحرب مع العراق. او بما معناه، الرضوخ للحلول البراغماتية لإنقاذ النظام الايديولوجي.

 

لكن قبل ذلك، هنالك نتيجة الانتخابات الاميركية ومسار اشهر اضافية من العقوبات التي ستطال «حزب الله» ايضاً. ربما من هذه الزاوية علينا ايضاً قراءة التطورات والاستحقاقات اللبنانية.