صحيح انّ أوضاعنا اليوم هي على درجة عالية من السوء، ولسنا في لحظة نهضوية على كافة المستويات، وأنّنا ما زلنا في فترة الجمود التي مضى عليها أكثر من ثمانية قرون، أي تاريخ غياب إبن رشد، لم ينتصر الغزالي على إبن رشد، بل حركة التاريخ هي التي سارت القهقرى وما زالت حتى اليوم، وهي التي أزالت فكر إبن رشد وإبن خلدون وتراث الفلاسفة المسلمين، والمفكرين والمبدعين، وقد آن الأوان للوقوف بشجاعة وجرأة في وجه الذين عاثوا فسادً في ديار الإسلام، ويعملون على تعميمه في البلاد التي آوتهم وفتحت لهم قلوبها قبل أراضيها.
 

مع تصاعد الهجمات الإرهابية المسلحة في بلاد المسلمين، وفي بلاد الهجرة في أميركا الشمالية وأوروبا، تتزايد الحاجة في العالمين العربي والإسلامي لفتح نقاشاتٍ وسجالاتٍ حيوية ومُفيدة للخروج من كهوف القرون الوسطى، وإطلاق حملات تجديدٍ فقهيٍّ وفكريٍّ للخلاص من أثقال الفقه الإسلامي العُنفي والظلامي، حملة ليست بمُبتدَعة ولا هي نافرة، يكفي بعض الجرأة لإعادة إحياء فكر المعتزلة،  أو أهل العدل والتوحيد( كما أحبوا أن يُسمّوا بهذا الإسم)، فقد كان لهم الفضل في افتتاح جدالٍ كلاميٍّ حول مسألة "خلق القرآن"، والمعتزلة كانوا "مسلمين"، أو على الأقل كانوا يتمتّعون بشرعية اعتبارهم مسلمين، ففي سعيهم لتنزيه الذات الإلهية، أقحموا أنفسهم في معالجة إشكالية المرور من الخطاب الإلهي إلى الخطاب البشري، فاعتبروا أنّ القرآن الكريم ليس أزليّاً كالله تعالى، إنّما هو مخلوقٌ في لحظةٍ ما من قِبلِ الله( أي تاريخي) والله وحده الأزلي والسرمدي، وهذا يقتضي الحديث عن مستويين للخلق: الأول هو الخَلق على المستوى الإلهي المتعالي، والثاني الخلق على المستوى التاريخي البشري، والمعتزلة يقولون بأنّ القرآن مُتجسّد في لغة بشرية وحروف عربية، وبالتالي يجب استخدام كلّ مصادر فقه اللغة العربية وأسرارها البيانية، من أجل فهمه وتفسيره،  والتّوصل إلى المقاصد الإلهية المُعبّر عنها في نصٍّ بلغة بشرية.

 

إقرأ أيضا : رئيس جمهورية لبنان ورئيس الحكومة..مثالٌ صالح لكتاب جلادويل الإستثنائيون.


انطلاقاً من مواقف المعتزلة هذه، والإقرار بأنّ القرآن بحاجة دائمة لإعادة فهمه وتفسيره، لاعتبار تاريخيته، وهذا يقودنا حتماً إلى ضرورة القيام بما يلزم من فتح أبواب الإجتهاد والتجديد الفقهي، الإجتهاد الذي لا مناص منه ولا خلاص بدونه، مع الإعتراف بأنّ الاجتهاد هو عملٌ من أعمال الحضارة، وجهدٌ من جهودها،  فقد مارسه المسلمون الأوائل  طيلة القرون الغابرة حتى مشارف عصر الإنحطاط، ولامسَهّ المصلحون الإسلاميون المُجدّدون أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين،  فتساءلوا لماذا "تأخّر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم" حسب صيحة شكيب إرسلان،  وقد مثّل لهم الإجتهاد قمّة العِلم المحمود، الذي مداده يوازي دماء الشهداء، فاستطاعوا بواسطته خلق حقل فكري لثقافة ونظام معرفي، كان يمكن له أن يؤسّس لنظام سياسي واجتماعي وقانوني صالح، قبل أن تُطيح أنظمة الإنقلابات العسكرية وسيطرة الحزب الواحد على آمال الأمّة جمعاء، ما يُحتّم علينا اليوم بذل المزيد من الجهود لبلورة تيولوجيا إناسية مُنفتحة تُعبّر عن جهدٍ متواصل لتحرير الوضع البشري الذي لا ينفكّ يغتني ويتوسّع، ومن حقنّا اليوم بعد كل المآسي والأحزان والمجازر وضياع الأوطان والهويّات، إن ندعو لمغادرة كهوف القرون الوسطى لأنّها مرعبة ومُخيفة، وفيها تكمن جذور تخلّفنا ومآسينا،  ويحقّ لنا أن نحلم، وندعو إلى مراجعة التراث الإسلامي كلّه وتأسيس " لاهوت" جديد في الإسلام، ومن حقّنا أن نتجاوز ما يتعلق به مُدّعو الحفاظ على العقيدة والثوابت، لأنّه آن الأوان أن نتقدّم بجرأة لتأسيس علاقة جديدة بين الله والإنسان، بين المجال المقدّس والمجال الدنيوي،  بين العبادات والمعاملات، ولا ضير من التذكير بأنّ اوروبا لم تتقدم وتنجز حضارتها إلاّ عندما قامت بالإصلاح الديني، الذي تبعهُ الإصلاح السياسي والإجتماعي والأخلاقي.

 


صحيح انّ أوضاعنا اليوم هي على درجة عالية من السوء، ولسنا في لحظة نهضوية على كافة المستويات، وأنّنا ما زلنا في فترة الجمود التي مضى عليها أكثر من ثمانية قرون، أي تاريخ غياب إبن رشد، لم ينتصر الغزالي على إبن رشد،  بل حركة التاريخ هي التي سارت القهقرى وما زالت حتى اليوم، وهي التي أزالت فكر إبن رشد وإبن خلدون وتراث الفلاسفة المسلمين، والمفكرين والمبدعين، وقد آن الأوان للوقوف بشجاعة وجرأة في وجه الذين عاثوا فسادً في ديار الإسلام، ويعملون على تعميمه في البلاد التي آوتهم وفتحت لهم قلوبها قبل أراضيها.