لو قُيٍض للكاتب جلادويل أن يطّلع على نظامنا السياسي لضرب مثلاً آخر أكثر وضوحاً ودلالة على الخضوع والخوف من جهة، والثّقة والإعتداد من جهة أخرى، لما وجد أفضل من مثال رئيس جمهورية لبنان ورئيس الحكومة العتيدة.
 

أولاً: كتاب جلادويل...
صدرَ كتابٌ رائع واستثنائي للكاتب مالكوم جلادويل تحت عنوان "الإستثنائيون"، وجلادويل أستاذٌ من بلاد "الكُفّار" في الغرب، لو وقع تحت سكّين "مُراهق" أفغاني أو شيشاني أو باكستاني أو حتى تونسي، لذبحهُ بلا رحمة كما تُذبح الخراف، يذهب هذا الكاتب للقول بأنّ ثمّة فرقاً كبيراً بين منهج تعليم وتربية وتنشئة الطبقات المتوسطة والفقيرة لأبنائها، ومنهج تربية وتعليم أبناء الطبقات الغنيّة والحاكمة والنافذة، ووفقاً لاتّباع هذين النموذجين في التربية والتعليم ينشأ الناجحون والفاشلون بين الأجيال، فأبناء الطبقات المتوسطة والفقيرة ينشأون على الخوف والتّردّد والخنوع والدّونيّة، وهذا ما يأنفُ منه أبناء الطبقات الغنيّة والحاكمة والنافذة، ومنشأ الخوف مُتجذّر من عصر الثورة الصناعية الأوروبيّة، إذ على العامل أن يخاف ويهاب من صاحب المصنع، لأنّه سيدفع له معاشه آخر الاسبوع، ومن متن الكتاب يضرب الكاتب المثل التالي:


عندما يصطحب أحد أبناء الطبقات المتوسطة والفقيرة ولدَهُ إلى طبيب الأسنان، يحرص على توجيهه وإرشاده بأنّ الطبيب درسِ ثماني سنوات كي يُعالج أسنانك، وهو أدرى بمهنته واختصاصه، وعليك أن تستسلم له طائعاً مُختاراً، تجلس صامتاً بلا تأفُّف ولا انزعاج، ولو تألّمت حاول أن لا تبكي، أمّا إذا اصطحب أحد الأثرياء أو المُتسلّطين ولده لدى طبيب الأسنان، فإنّه يُفهمهُ بأنّ الطبيب درس ثماني سنوات كي يكون في خدمتك، وهو صديقك، فلا تتردّد في سؤاله عن أيّ شيءٍ ترغب في معرفته عن أسنانك ولُثّتك وكيفية العناية بها، لأنّ وظيفة الطبيب أن يضع ما تعلّمه في خدمتك وتحت أمرك.

 


هاذان نهجان مُختلفان، الصّبيٍ الأول عليه أن يكون خاضعاً خائفاً، ومُمتثلاً من أهل العلم والسلطة، والصّبيّ الثاني عليه أن يكون واثقاً من نفسه، وأنّ أهل العلم والسلطة هي موارد وُجدت لخدمته، وخدمة أغراضه وأهدافه، وتخيّل بعد عشرين سنة من تنشئة كهذه، من هم الذين سيواجهون الحياة بمصاعبها وتعقيداتها وإكراهاتها بنجاحٍ وشجاعة وإقدام، ومن هم الذين سيقعون تحت سنابك خيلها في أقرب فرصة، وهي مُتاحة دائماً.
ثانياً: رئيس الجمهورية اللبنانية ورئيس الحكومة مثالٌ صالح لكتاب جلادويل...

 

إقرأ أيضا : غبطة البطريرك.. المسيحي أولى به من المسلم حماية لبنان وصونه.

 


في نظامنا السياسي اللبناني الطوائفي، يتعلّم السياسي الماروني الثّقة التّامة بأهليته العقلية، وذكائه ومهاراته كي يكون رأس الجمهورية اللبنانية، كامل الصلاحيات، الآمر الناهي، السّيد الذي يُطاع، كلّ موارد الجمهورية من مؤسسات الدولة وأجهزتها الأمنية والعسكرية والقضائية تحت إمرته، أمّا رئيس الحكومة السُّنّي المُرشّح لتولي هذا المنصب، فعليه أن يكون( مع أقرانه المرشّحين لذلك) خاضعاً لمزاج رئيس الجمهورية الذي يستدعي من يشاء لتكليفه رئاسة الحكومة الجديدة، واستبعاد من يشاء من سائر المرشحين، وما على المرشّح الأوفر حظّاً سوى الانتظار قرب جهاز الهاتف حتى يرنّ ويهتف: هنا القصر الجمهوري،( وكان رسّأم الكاريكاتير المشهور بيار صادق قد نشر في سبعينيات القرن الماضي رسماً للرئيس صائب سلام جالساً قرب الهاتف وقد نفد صبره وهو يقول للجهاز..رنّ، رنّ)، حتى إذا وقعت العناية الإلهية على أحدهم، يذهب "صاغراً" نحو القصر الجمهوري شاكراً عطف الرئيس، سائلاً المولى عز وجل أن يُوفّقه في مسعاه لخدمة رئيس الجمهورية والجمهورية تالياً، وعليه أن يتعلّم كلّ أسباب الخنوع والمُداراة والمداجاة، ليحظى على الدوام برضى رئيس الجمهورية أثناء الولاية وأثناء تجددها لو لزم الأمر، حتى جاء اتفاق الطائف أواخر القرن العشرين، ليضع حدّاً لهذه المهازل، ومن ثمّ جاء عهد الرئيس "القوي" ميشال عون، الذي ابتدع أساليب " إخضاعٍ وإذعان" لرئيس الحكومة المرشّح لتولّي رئاسة مجلس الوزراء، في طليعتها اختيار الوقت المناسب والأفضل لرئيس الجمهورية للبدء بإجراء الإستشارات النيابية الملزمة، وبعد ذلك الاعتماد على صهره الوزير جبران باسيل، الذي يُتقن كافة فنون العرقلة والمماطلة في سبيل انتزاع أكبر حصة وزارية وأفضلها لتيّار رئيس الجمهورية، وأخيراً، ثالثةُ الأثافي، حقّ توقيع مراسيم تأليف الحكومة الجديدة أو رفضها، وهكذا عادت حليمة لعادتها القديمة، ولن يُعدم رئيس جمهورية قوي كالرئيس ميشال عون من أن يحظى برئيس حكومة ضعيف وخائف ومُتردّد وخاضع كالرئيس سعد الحريري.


لو قُيٍض للكاتب جلادويل أن يطّلع على نظامنا السياسي لضرب مثلاً آخر أكثر وضوحاً ودلالة على الخضوع والخوف من جهة، والثّقة والإعتداد من جهة أخرى، لما وجد أفضل من مثال رئيس جمهورية لبنان ورئيس الحكومة العتيدة.