لم يحظً شأنٌ في لبنان، مهما بلغت عظمته، باهتمام اللبنانيين كلّ اللبنانيين، كما هو حال الدولار الأميركي. فالأخير، ومنذ أن بانت نكبتنا المالية قبل عام، يتصدّر قائمة اهتماماتنا، ليس لأنّنا من أصحاب الملايين، ونصفنا إن لم يكن أكثر، بات من فئة الفقراء، بل لأنّ أداء العملة الخضراء يتحكّم بمفاصل حياتنا وعيشنا ومأكلنا ومشربنا حتّى أدويتنا التي باتت شبه مفقودة. مسار الدولار هذا كتشريننا وتقلّباته، يتأرجح صعودًا وهبوطًا، ليس خلال أيام، بل بغضون ساعات قليلة، ويولّد نكبات مدمّرة.  

 


لا تقف خلف تقلّبات سعر الصرف في السوق السوداء المعطياتُ الإقتصادية وقواعد العرض والطلب وحدها، بل تتفوق المعادلة السياسية في فرض إيقاعها على سعر الصرف  في سوقه السوداء، بحيث يرتفع السعر كلما ارتفعت وتيرة التجاذبات السياسية، وحكّامنا مبدعون بجرعات التوتر، وينخفض عند أيّ إنفراج سياسي.  

 

نظرةٌ على بورصة سعر صرف، تظهر كيف أنّه يتقلّب وفق التطورات السياسية. بعد المبادرة الفرنسية وتكليف السفير مصطفى أديب تأليف الحكومة، هبط سعر الصرف، واستقرّ في تلك الفترة بحدود 7000  كحدّ أقصى. وعلى وقع تعثّر المبادرة واعتذار أديب،عاد الدولار ليحلّق إلى حدود 9000 ليرة. عشية تكليف الرئيس سعد الحريري، ونتيجة التوقعات بخطاب تصعيدي لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ارتفع سعر الصرف ليبلغ عتبة 7700 ليرة، وعلى أثر خلو كلمة عون من إرجاء جديد للإستشارات هبط  إلى ما  يقارب 7400 ليرة، بغضون ساعتين فقط. وبعد مرور لحظات على تكليف الحريري سجّل السعر انخفاضاً تراوح بين 7050 و7150 ليرة.، ثم عاد وانخفض مئتي ليرة.  

 

أسئلة عديدة يطرحها المواطن الحائر، هل سيواصل الدولار مسار العقلنة ويهبط تدريجيًا؟ أم سيحلّق من جديد؟ وفي حال تمكّن الحريري من تأليف حكومة اختصاصيين مستقلين كما يَعِد، إلى أيّ مستوى قد يهبط الدولار؟ وأي تأثير للمسار السياسي على تقلبات السعر؟ ماذا عن القواعد الإقتصادية ودورها في تحديد السعر على المدى الطويل؟   

 

في قراءة لمسار الدولار والعوامل المتحكّمة به، يلفت الدكتور ايلي الخوري، باحث في الشؤون الإقتصادية وناشر موقع اقتصادي (bankingfiles.com)، إلى تفاعل سعر صرف الدولار مع أيّ خبر إيجابي في الناحية السياسية، بحيث يهبط إلى حدود معينة، كما حصل بُعيد تكليف الحريري، وقبلها نتيجة المبادرة الفرنسية. ولكن تسمية الحريري وحدها لن تجعل الدولار ينخفض، بل أنّ هامش التفاعل والهبوط منوط بسرعة التأليف وثقة البرلمان، فكلما كان التأليف سريعًا كلما انخفض سعر الصرف. ومنوط أيضًا بمرحلة ما بعد التأليف وبالأداء الحكومي، لناحية هوية الوزراء، هل فعلًا هم تكنوقراط، خصوصًا بظل تجربة حكومة دياب التي ضمّت وزراء غير حزبيين، لكنّهم ساروا بالأجندات السياسية، ففشلت الحكومة.  

 

الدولار لن ينخفض أكثر من 5500 بأحسن الأحوال 

 

وفق رؤية الخوري في حديث خاص لـ "لبنان 24" مهما بلغت إيجابية المعطيات السياسية، لن يهبط الدولار تحت سقف 6000 أو 5500 ليرة بأحسن الأحوال "بمعنى أنّه فيما لو تمكّن الحريري من التأليف، وبدأ المسار التفاوضي مع صندوق النقد، لن يتخطى هبوط الدولار عتبة 5500، ليثبت عند هذا السعر. فإلى جانب السياسة هناك عوامل تتحكّم بسعر الصرف، كالكتلة النقدية بالليرة، والتضخم الهائل مع طبع 24 ألف مليار ليرة، والمخاطر السيادية للدولة والدين العام، خصوصًا بظلّ إيقاف دفع سندات اليوروبوند منذ آذار الماضي، وكلّها مؤشرات سلبية، ناهيك عن الممارسات الشاذة والمربكة للمصارف ومصرف لبنان، كالتعميم الأخير رقم 573 . 

 

للدولار في لبنان سطوةٌ كبيرة، تشبه إلى حدّ ما سطوة الطبقة لحاكمة. أداء الأخيرة لطالما انعكس على بورصة الدولار، فلماذا يتأثر سعر الصرف بالعامل السياسي في لبنان؟  

 

يجيب الخوري " صحيح أن قاعدة العرض والطلب تتحكّم بالدولار في الأسواق العالمية، ولكن أيضّا الدولار يرتبط بالسياسة خارج لبنان. ففي الولايات المتحدة الأميركية يتحرّك الدولار صعودًا وهبوطًا على وقع معركة الرئاسة الأميركية، وأيضًا على وقع شدّ الحبال في المعركة الإقتصادية بين الصين والولايات المتحدة، فكل خطاب للرئيس الأميركي أو لنظيره الصيني يؤدّي الى تقلّبات بسعر صرف الدولار. وكذلك في المسرح الأوروبي، انسحاب بريطانيا من الإتحاد الأوروبي أو بريكست، انعكس على سعر اليورو الذي بدوره أثّر على سعر الدولار. كذلك لجائحة كورونا وضربها للإقتصاد انعكاسٌ كبير على سعر العملات". 

 

أضاف الخوري "لكنّ الدولار في الأسواق العالمية متروك للعبة السوق ومعادلة العرض والطلب، وإن كان يتماهى مع الخطاب السياسي. أمّا في لبنان فالأمر مختلف، خصوصًا بظل تثبيت سعر صرف الدولار، بحيث أنّه لم يعد خاضعًا لعمليات العرض والطلب، وبات على المركزي أن يتدخّل في السوق ليضبط إيقاعه ويلجم ارتفاعه. هذه العملية ّ لطالما كبّدت الخزينة اموالًا طائلة من العملات الصعبة. كما أنّه بتيجة هذه المعادلة بات المناخ السياسي يتحكّم في سعر الصرف، وليس عملية العرض والطلب".  

 

 

عدم بناء اقتصاد منتج أفقد الليرة ثقة اللبنانيين 

 

علاقة المواطن اللبناني بالدولار، وتخليه عن الليرة عند أيّ منعطف مالي واقتصادي، نتيجة افتقاده عامل الثقة والأمان تجاه عملته الوطنية. كيف لا وتجربة عام 1993 لا زالت ماثلة في الأذهان، عندما خسرت الناس أموالها بفعل ارتفاع سعر الصرف إلى حدود 3000 ليرة. من هنا يشير الخوري "تكوّنت لدى المواطن "نقزة" من تقلّبات الدولار، ولأنّ اللبناني فقد الثقة بالطبقة السياسية الحاكمة، لجأ إلى العملة الصعبة كصمام أمان ليحافظ على قيمة أمواله. كما أنّ إقتصادنا مدولر لناحية الميزان التجاري وميزان المدفوعات، بسبب عدم بناء اقتصاد منتج والتركيز على الإقتصاد الريعي. والنتيجة أنّنا نستورد ما نسبته 80% من حاجياتنا، وبطبيعة الحال ندفع بالدولار لاستيرادها ".   

 

 

إذن سيبقى الدولار الحاكم الأقوى في ظل اقتصادنا الريعي، نظرًا لحاجتنا إليه للحصول على كلّ السلع، بما فيها المرتبطة بالأمن الغذائي والدوائي. والحل الأمثل بنظر الخوري، يكمن بنزع صلاحية طبع العملة من مصرف لبنان وإيكال المهمة إلى  Currency Board أو مجلس العملة، يتولّى عملية طبع الليرة وفق المبدأ التالي: كل عملية طبع للعملة المحلية يجب أن يدخل ما يوازيها بالدولار، الأمر الذي من شأنه أن يلجم التضخم، وهو ما اعتُمد في دول مثل الأرجنتين وهونغ كونغ.  

 

نوال الأشقر