هي بيروت، وليس في بيروت من ليلٍ كاملٍ ولا نهارٍ كاملٍ، فهي مدينة الوقتِ المَوقوت.. إنّها كُسوف الشمس وخُسوف القمر معًا.. وتُرعبك فيها كلّ هذه الظَّواهر الثوريّة المُختلفة و الخارجة عن قانون كلّ الثورات، وتراها تحدث أمامك بانصهارٍ كيميائي عجيب و بتفسيرٍ منطقي ولا منطقي في آن!

 

هي بيروت الأمان وبيروت الرّعب.. هي ذي بشمسها المحجوبة بدخان الدواليب وبقمرها الذي يحاول تزويدها بالكهرباء.


لن تسمع «هنا» من إعلامييها يومًا عن أن لبيروت هدوءًا حذرًا كما يُقال عن مناطق عربيّة أخرى مَنزوعة الحريّة.. ولن تسمع من إعلامييها يومًا عن أن لبيروت شبهًا بغيرها من الأوطان التي تعرف حتى عندما تحتقن وتغضب وتنفلت، فغضبها حالات خاصّة تُشبهها وحدها، حتى إن بدا لك غضبها مزيجًا من الثَّورات التي تعرف، أو أنّه يأخذ شيئًا من غضبِ الثورة الرّوسية مثلاً أو من ملامح ثورة كوبا.. رقصها في عزّ غضبها لا يُشبهُ جسد مونرو، ولا ينتفض مثله، حتى إن بدت تشترك في جمالها الانقلابيّ مع تلك المرأة الفاتنة.


وحدها بيروت لا تؤجل حفلاتها ولا مواعيدها الفنيّة، لأنّها اعتادت كلّ حالات الطوارئ الممكنة الحُدوث.

 

لا تُصدّق أنَّ بيروت لا ترى في الظلام ولا عند انقطاع الكهرباء، فهي دائما «تحت الضوء».. وتمتلك أكبر احتياطي للشموع الجاهزة لمراسم التأبين ولصلاتها العذرائيّة ولليالي انقطاع الأحلام..


لا تُصدّق أن بيروت لا ترى في الظلام، فهي ترى بعدساتها اللاّمعة وبمولّدات شرارتها الداخليّة، ولهذا تفشل فيها كلّ محاولات (التعتيم) منذ الأزل !


 
يُدهشك في بيروت تناقضها السرياليّ، إنّها مسرح اللاّمعقول وثورة اللّامعقول..


إنّها مدينة الأحزان الصاخبة كما الأفراح الصاخبة، ويحدث أن تحجز لها موعدًا غراميًا وهي ذاهبة إلى ساحة احتجاج.. بيروت امرأة ناضجة بحلم مراهق لا يعرف المستحيل، وبذلك الأرق الذي يسبق القلق. وتربكك دائما هذه المدينة بوجهها النصف السَّافر والنصف الملثّم..

 

إقرأ أيضا : استثمار الحزن: المشروع الأنجح لسماسرة السعادة الوهمية!

 

تلجأُ بيروت مُكفهرّةً إلى العرّافات والمُنجمين السياسيين لتعرف مصيرها القادم وتلجأ لكل الأئمّة لتطهّر نفسها من رِجسَ المندسين لثورتها، وتلجأ للكنائس لتكفّر عن ذنوبها القادمة، وتكاد تقول أنها أندلس الشرق الجديد بتعايشها مع دياناتها حتى في عزّ العصيان، رغم محاولات جرها إلى الفتن الكبرى الساحقة.

 

الحرارة هنا في بيروت تقاس من جباه الثوّار، وتقاس برودتها من أقدام الشهداء..

 

تسألك بيروت في «عجقة» السير وهي تتأمل نفسها من مرآة سيارتك: "هل تكتب؟" 


إذًا أكتب لي! وتردد على مسامع صفارات الإنذار كلها مع نزار قباني: "الثورة أنثى".. وعندها يستحيل الضوء إلى اللون الأخضر..  وتأمرك بإلقاء قصيدة ثورية.

تسألك بيروت وأنت تحضر ثورتها حاملا شعارك: "هل تغني"؟


إذا غنّ لي..! وتردد لك ما تعرف من صرخات فيروز و ماجدة و مرسال خليفة، وعندها تستحيل لافتتك الاحتجاجية إلى أغنية ثورية مكتوبة للتو وتجدها ترقص أمامك على هتافك، وهاهم المحتجّون أمامك يتزوجون على الأغاني نفسها وينتفضون بدفوف الدبكة، وتفهم لما كنت تعجز عن التقاطِ أنفاسكَ في هذه المدينة؛ إنّ منسوبَ الدّهشة هنا مما تراه، لا يحدث في أيّ مدينةٍ زُرت!

 

أتركْ حقيبتك.. وأرقصْ ثورةً في بيروت!