الشغف هو في الحقيقة ما سرق منا، أو بالأحرى ما فقد في عالم تغير ولم يعد حالما، وهو ما علينا أن نبحث عنه قبل أن نلتهم كتبا لن تزيدنا سوى إرهاقا معنويا و لننجو حقا من استعمار العالم الجديد: حرب الكآبة! إ
 

لم أستغرب أن تكون كتب "التنمية البشرية" هي الأكثر مبيعًا لدى فئات عمرية مختلفة، فقد أصبح استثمار الحزن مشروعا ناجحا لسماسرة السعادة الوهمية، وهم أكثر خطرًا من سماسرة البحر الذين يُلقون بالهائمين في المراكب السرية نحو حياة تنتظرهُم في القارّات المُقابلة.

 

هكذا وجَد تجّار السعادة الموعودة طريقا جديدًا دخلوا إليه للتأثير على المغلوبين على أقدارهم، لكنهم لم يزيدوا إلا المكتئبين دوافع إضافية للانتحار وللاستسلام! ذلك أن مد إنسان بأمل واهم وسعادة مزيفة محشوة بالقطن، وتزيين واقعه دون مراعاةٍ لظروفه التي يمر بها، يصيبه بإحباط مضاعف حالما يستيقظ من خدر ما قرأه مكتشفا استحالة تطبيقه بل تجعله يشك في مهاراته وذكائه وحتى مواهبه ورغم الدروس الدقيقة التي يضعها هؤلاء صفحة بعد أخرى، مستشهدين بنجاحات حققها آخرون رغم قصصهم المأساوية، (لأنها في النهاية محض افتراضات تحقق جلها في لحظة صدفة)!

 

ربما أسوأ ما يمكن أن يشعر به قارئ هو اكتشافه محاولة كتاب التحايل عليه، و يسخر منه بحلول لن تناسبه ولن تزيد لسعادته النفسية شيئًا!

 

ما نحتاجه لنتغلب على الاكتئاب، ليس تقديم الأقوال الملهمة في الحقيقة ولا ذكر سير العظماء بالضرورة في كتاب، بل أن نفهم الواقع الذي نعايشه بدءًا من ساعة الاستيقاظ إلى ساعة النوم وإعادة برمجته وفقا لساعتنا لا لساعة العالم، ذلك أن مقاييس النجاح ذاتها تغيرت وأجزم أن رجالات تلك السير لن يحققوا ما أصبحوا عليه، لو أنهم عاصروا وقتنا الحالي!

 

إقرأ أيضا : في زمن السوق الوقائية!

 

 

السبب، أن كل إنسان مستهلك بما يكفي اليوم، يفيق وينام على مشاغل تقصّر من يومه ويحاصر بأشغال افتراضية شاقّة تنسيه رغبته في الاهتمام بأحلامه، وتسرق منه وقته.

 

 في السابق كان العظماء هم الذين يستهلكون الوقت، أما اليوم فالوقت من يستهلكنا، والعظماء منا اليوم إذا هم من يستطيعون، الحفاظ على سلامهم الداخلي.. وعدم انهيارهم!

 

في الواقع، إن "حضارة الرفاه" التي نعيشها بدرجات متفاوتة حسب الوطن الذي  نعيش فيه و التقدم الوفير بكل ما يقدمه اليوم من امتيازات، أطفأ شغف الملاييين، وأولد نوعا من الاكتئاب المشترك بين كل شعوب الأرض نفسها، ولهذا فاجأت اليابان الجميع على الرغم من تقدمها المبهر في كل المجالات، بأنها كانت أكثر بلد ترتفع فيه أعلى درجات لمحاولات الانتحار، يرتكبها أشخاص في ذروة نجاحاتهم! 

 

 

المعضلة إذن، هي ليست أن نصبح أثرياء، ولا في حياة أفضل وأكثر تقدما، وليست في أن نكون أكثر مكانة بل في أن نعيد لأنفسنا الشغف أولا لنحيا وأن نبتعد عن أنظمة زُرعت في حياتنا المعاصرة دون أن ندري، و تجبرنا على التحرك كالآلات مثقلة علينا بمسؤوليات لن نستطيع تحملها معا في يوم واحد، أيا كانت مكانتنا، (وجلها مسؤوليات لا تحقق نفعنا الشخصي) ما يدفع بالقلق إلى ذروته أكثر في أعماقنا.

 

 

الشغف هو في الحقيقة ما سرق منا، أو بالأحرى ما فقد في عالم تغير ولم يعد حالما، وهو ما علينا أن نبحث عنه قبل أن نلتهم كتبا لن تزيدنا سوى إرهاقا معنويا و لننجو حقا من استعمار العالم الجديد: حرب الكآبة!